قبل أعوام دخلت المتحف المصري العريق. حينها كنت مسحورا بكتاب يحكي قصة الإكتشاف المثير لمقبرة توت عنخ آمون في وادي الملوك على يد الإنكليزي هوارد، ثم موته المفاجئ بسبب ما أذيع وقتها عن لعنة الفراعنة.في مدخل المتحف إشتريت تذكرة إضافية لدخول صالة المومياءات حيث يُسجّى ملوك مصر القديمة، ولحسن الصدف مُنحّت لقاء ثرثرتي بالعربية سعرا مخفضا يقلّ بكثير عما يدفعه الزوّار الأجانب، وهذا ما بعث فيّ النشوة ودغدغ الجينات المبرمجة على حب الربح والغزو والصيد.
صالة المومياء بدت لي فقيرة وغير مؤثثة بطرز ملكية فخمة ولائقة، ولا أدري إن كانت الروح "كي" ستجد أجساد هؤلاء الملوك بسهولة كما تخبرنا عقيدة البعث المصرية، هذا إن سمح لها حراس المتحف بالدخول دون دفع بعض (البقشيش)
الصمت المطبق الذي ساد المكان، كان مهيبا. وكأن هؤلاء الملوك فرضوا على الزوّار إحترام جلالتهم وسكينتهم الأبدية. في تلك اللحظات القدسية المفعمة بالرهبة والخشوع أمام حضرة الموت وعظمة التاريخ. وجدت نفسي أمام التابوت الزجاجي الذي توسط الصالة، إنه رمسيس الثاني الملك العظيم الذي إنحنت له فرنسا وعزفت لرفاته نشيدها الوطني.وبينما كنت أسيرا لجلال الموقف، وقف بجانبي شاب تبدو عليه إمارات التديّن والورع. سيما أنه ختم جبهته بزبيبة التقوى وأطلق لحيته وحفّ شاربيه (ربما نكاية بالمتنبي القائل:أغاية.. يا أمة..) وإلى جانبه وقفت إمرأة توارت خلف نقاب فاحم. إذذاك دفعني الفضول ورحت أرمقهما خلسة لقراءة إيماءاتهم وهمساتهم، ولم يخب ظني فبعد ثوان معدوات قالت السيدة مستفهمة:
هذا هو الفرعون الذي أغرقه سيدنا موسى في البحر؟
كان عليّ حينها أن أغضب، أو أضحك لكن صوت المرأة المُشبّع بالأنوثة والإثارة سحرني، فإشتعلت النار إضطراما وتوقدت برائحة البارفان النسائي الذي إنبعث منها وعبق في المكان، وإزداد الطين بلّة عندما لمحت هرمين إقتحما عباءتها بتحد سافر، فأخذني المنظر بعيدا إلى حيث تتلوى الشهوة كأفعى [وبهذا أطمئن الجميع بأن المخيّلة ( هي مركز الإيروتيكا)، وقادرة على إقتحام كل الحصون وإشعال فتيل ثورة جنسية]وبغض النظر عما إذا كان رمسيس هو فرعون سفر الخروج أم لا، فنحن أمام موقف غريب. فهل يُعقل أن يكون المسجى أمامنا قد غرق ( وقضمه سمك القرش)، وهل يُعقل أن من أغرقه لا أثر له! كيف يصبح سيدنا "الوهم" أقوى من الحقيقة، والأسطورة أصدق من التاريخ؟ يا إلهي أي عالم أحمق هذا الذي نعيش فيه؟ لكن مالحقيقة؟ سألت نفسي، أليست تلك التي يصنعها الناس بغض النظر عن ماهيتها!
بعد ساعتين تقريبا غادرت المتحف، إضطرارا بسبب لعنة ( فيليب موريس) مشيت ميدان التحرير، بإتجاه وسط البلد، وبعد إستراحة شاي في أحد المقاهي المضغوطة بدخان النرجيلات، وجدت نفسي في بداية شارع 26 يوليو ثم أكملت المسيرة حتى بلغت العتبة.. العتبة وما أدراك ما العتبة هناك تتوحد مصر في أغرب كرنفال فوضى خلاقة عرفتها البشرية[سيول بشرية هائمة. سيارات وعربات وباعة أرصفة (متأهبون دوما للفرار ببضاعتهم وأكياسهم خشية مداهمة الشرطة) وجوه أرهقها عناء اليوم وكدحه ومرارته، وأدعية وصلوات وأبواق وصراخ وبخور ودوي محلات الكاسيت (ذات الأغاني الهابطة)..
في إحدى الزوايا الميتة رأيت مشردا إفترش الأرض بوضع يشبه النوم أو الغيبوبة. ملابسه كانت متخشّبة بلون أوساخ الرصيف. عيونه كانت غائرة وزبد فمه اختلط بالتراب وبقايا طعام قديم يشبه القيئ. عابرو السبيل يمرّون قربه لا مبالين متجنبين أن يتعثّروا به أو يدوسوا على سواقي البول التي رسمها حوله.
وأمام تلك اللوحة القاتمة الفاقدة لبريق الحياة تملكني إحساس بأن الأسطورة التي أغرقت الفرعون بالبحر، أغرقت هذا الرجل بالبؤس والبول والأمة بالجهل والغيبوبة والزبالة. ويا لها من صدفة عمياء، فلم يمض وقت يُذكر على مرور هذه الصورة الحمقاء، حتى تناهى إلى سمعي صوت أحد مقرئي أشرطة الكاسيت وهو يتلو: فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق