
23 يوليو، 2008
أعتقد جازما أن لفظتي"مُقدّس وحَرَم " ومشتقاتها اللغوية هي تطوّر دلالي لجذرين لغويّين أكاديّين "قادشتو، وحريمتو" وهي أسماء لكاهنات نُذرن لممارسة البغاء المقدس في المعابد الرافدية، هذا ما يعرفه جيدا قارئ التراث المسماري لوادي الرافدين، ففي تشريعات حمورابي للميراث، نجد تميّيزا بين الإبنة العذراء (زر ماشتو )، والإبنة العاهر (قادشتو )خادمة المعبد، وفي طقوس البغاء حول الإلهة عشتار، في مدينة أوروك، كانت (حريماتو) فئة من الداعرات المقدسات، حيث تقول الألواح حرفيا: لا تتزوج من حريمتو لأن عدد أزواجها لا يُحصى، وليس الإحترام والخضوع من خصالها (1)]
بعد هذه التوطئة الإيتمولوجية، أكون قد ضمنت مبدئيا حجب هذا النص، عن دكاكين الإعلام، التي لا تسمح بمغازلة (قادشتو) أو مداعبة ( حريمتو) إلا بختم من مأذون أنكحة شرعية( وبلغة الملاحدة: قاضي أحوال شخصية). لكننا (لحسن أو لسوء الحظ) نعيش في عصر ثورة رقمية، كسرت نسبيا إحتكار الإله السومري، حارس جرار اللفائف والألواح. إذ يمكننا أن نعثر في زواريب الإنترنت على باعة جوّالين، ينادون على سلع مهربة، مع أن الحقيقة المريرة تثبت أيضا أن عصر الإنترنت هو كارثة جديدة ولعنة حلت على العرب، كونهم لم يتقنوا بعد صنعة القراءة، فعصر المعلوماتية ( كما يقول ذوو الإختصاص )هو إيذان بنهاية حقبة " الحيوان التاريخي" وولادة إنسان لا تاريخي متوتر ومنفعل، يمضع لحظته الآنية، ويرمي عظامها في قعر الذاكرة، ثم ينقضّ ليستهلك لحظة قادمة بنفس الإنفعال والتوتر واللهفة. لكن وبرغم المعلومة المُلتبسة والمُتلبسة بأضواء لامعة ومتلألئة، والتي تساهم في تشتيت وتشويش وتعطيل فعل القراءة، يظلّ فضاء الإنترنت مكانا للإثارة، والعناوين العريضة، التي تنزلق في لاوعي المتلقي، كشريط إخباري مصوّر، يساهم في توليف وقولبة وعيّه.
وأهم مايسترعي الإنتباه كثرة صفحات الجدل والسجال أو الوعظ الديني المباشر، التي تنقل صورة مشوّهة ومسطحة لقضايا معرفية شديدة التركيب والتعقيد يتداخل فيها الإجتماعي مع التاريخي ـ الميثولوجي ـ السياسي. مع فضاءات من الحداثة المعوّلمة. ولصعوبة التطرق لهذا الموضوع وتشعبه سأحاول التعرف على بعض إختناقات وأزمات السجال الديني، كما ترسمها الصور الرقمية، وإتجاهات الكتاب والمعلقين
1ـ مسيحية شرقية تقليدية، مضطهدة تاريخيا، وخاضعة لهيمنة سيادة إسلامية عليا، سببت لها شعورا بالإغتراب، والمهانة، ناهيك عن وجود قطيعة أبستمولوجية ولغوية مع تاريخيها الخاص (سببها توقف القبطية والآرامية عن التداول الشفهي والكتابي)، وبالتالي خضوعها معرفيا وقيّميا لمنظور رؤيوي إسلامي.
2ـ مسيحية( روما) الكاثوليكية ذات التاريخ الكولونيالي الأقطاعي العنيف، والتي تهاوت صروحها أمام ثورة التنوير والحداثة، بعد صدام دموي أغرق القارة الأوروبية لعقود طويلة
3ـ مسيحية لاهوت التنوير، التي نفضت نفسها من أدران الأسطورة الدينية، ومبدأ إحتكار الحقيقة المطلقة، وأبقت على دلالات رمزية للإيمان، فالمسيحي الأوروبي لم يعد يولي إهتماما لقصة خلق آدم، وعذاب الجحيم، أو عذرية مريم ، وولادتها الإعجازية، [صلب وجوهر العقيدة القروسطية] بل إلى المضمون الخلاصي والرمزي والثقافي للمسيحية كمكوّن لهوية وذات جمعية.
ومن تلك الطبقات الثلاث، يمكن أن نتكلم عن صيرورة مسيحية مشرقية مركبة وملتبسة، فجرجس الصعيدي، (أو جريس الحوراني) يجمع كل تلك التصوّرات المتضادة معا (ويتكلم أحيانا بالموبايل وهو يمتطي حماره) وينظر بعيون محمدين ويقتسم معه نظام رؤية الكون( ثقافيا ولغويا وقيميا) وهو مثله يلبس الجلابية، ويغني (يا غزال يا غزال العشق حلال) لكنه يختلف عنه بإختلاف فضاء المُتخيّل الأسطوري القصصي، الذي يمنحهما معا نرجسية إستعلائية مكبوتة وإتهام متبادل بالنجاسة والهرطقة، وهذا يتطابق مع صورة مسيحية إسلامية قروسطية، إندثرت في أوروبا قبل أكثر من قرن، من هنا فإن (عم جرجس) لا تريطه بمسيحي سويسري أنتجته حركة الإصلاح البروتستاتي الكالفيني أو لاهوت التنوير، إلا روابط زائفة(Pseudo) والمسافة بينه وبين اللاهوتي هانز كونغ، ماتزال أبعد من المسافة بينه وبين سيد البدوي( المدفون في طنطا) وبالمجمل فإن هذه الصورة القلقة والممزقة في الإنتماء والهوية، تعمقت بسبب طبيعة النظام السياسي وهشاشة شرعيته، وفقدانه لشخصيات كارزمية فذة ( مثل بورقيبة أو عبد الناصر) كانت مؤهلة فعلا للجم التغوّل والتطرف الديني، وتشيّد دولة مواطنة فعلية .
وإستكمالا لهذه المقالة الصيفية(ذات الأكمام القصيرة) أعرج على بعض المناكفات والقصص الصبيانية والساذجة التي راجت مؤخرا في الإنترنت كأطروحة" السكان الأصلين" وربط العرب بصحراء "الربع الخالي" وليس بثقافة ذات ملامح وشخصية تاريخية. ومع أن هذه الآراء سخيفة وتافهة، إلا إنها تستحق بعض الفكاهة والتندر، ولا أدري حقا كيف يمكن للمسيحي المصري أن يرد أصوله إلى "منقرع" إذا كان لايستطيع تحديد هوية "من قرع" وتأكيد نسبه البيولوجي. وحتى لو ثبتت نسبته الجينية إلى "منقرع" ما المانع أن ينتسب المسلم إلى خفرع أو مينا( موحد القطرين) أو حتى إلى القديس مرقس (المؤسس الأسطوري للكنيسة القبطية) أو إلى أحد جنود نابليون، فالنسب البيولوجي لايمكن التحقق منه إلا بفحوص DNA، ((مع ضرورة الإنتباه إلى أن كيدهن عظيم))وبما أني شخصيا معجب بفكرة "السكان الأصلين" وضرورة ترحيل العرب إلى بيدائهم ومضارب قبائلهم[سيما وأن الأسعار الجنونية للبترول أصبحت مغرية؟ وتضمن للعرب الإقلاع عن أكل الضب، وإلإكتفاء بما قسم الله لهم من تشيزبرغر وبيغ ماك] لكني بنفس الوقت أطلب من أهل النخوة مساعدتي، في إعادة أمريكا للهنود الحمر، وبالمرة رمي الأمريكان في البحر؟
هذا جانب من المهزلة أما الأخرى فقد بلغت إربها، بأطروحات بعض متعصبي الكرد، من مدمني الإنترنت، الذي وصلوا إلى إحتكار سفينة نوح الوهمية ونسّبها لكردستان العظمى، (بعد ضم جبال آرارات الأرمنية). ووفق نظرية الأصول هذه تصبح كل منابع الحضارات كردية!! وما على الأمم إلا مغادرة هذا الكوكب الكوردي والبحث عن كواكب أخرى؟مشكلة الإسلامتعود أزمة الإسلام إلى تقوقعه داخل منظومة نصوص تأسيسة مقدسة آسرة ومهيّمنة، شلت فيه القدرة على التمرد والتفكير الحر، وبالتالي عصيانه على الحداثة وإستعصائه على الإصلاح، ولم يستفق المسلمون فعليا، إلا على صهيل خيول نابليون في باحة الأزهر عام 1798م، ومر الزمن ومر قطار الحداثة بقربهم، وهم يرمقونه بنظرات متطيّرة وبمشاعر من الخيبة والمرارة، (وعقدة الفحولة المجيدة) التي أثمرت فيما بعد عن ولادة دعوات لإحياء عصر إفتراضي أسمه عصر "السلف الصالح" ، وهذا ينم عن بؤس معرفي متقع، فالعودة إلى زمن مُتخيّل مستحيلة لإفتقاد الشروط التاريخية لذلك العصر. وما التباهي بالسلف إلا ضرب من السذاجة الطفولية، تذكر بمقولة أبي حيان " من يتباهى بفضائل غيره، كخصيّ يتباهى بطول أيّر مولاه" [معذرة لهذه الصفعة البلاغية!! فهي مناسبة أكثر لوصف غلمان السلطان ( أطال الله عمره، وأطال أشياءه لما فيه خير الأمة) وتنطبق بجدارة على فرقة دبكة الليبرالين العرب من أنصار (الدبابة والديمقراطية)
هوامش:
1ـ بلاد مابين النهرين ل.ديلا بورت، ترجمة محرم كمال
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق