بقلم: خلدون النبواني
اعترف بادئ ذي بدء أنّني لا أحب الالتزام كثيراً وأنني أُفضِّل أن أكتب موضوعاً يفرض نفسه عليّ على أن أكتب عن فكرةٍ يطرحها أحدٌ غيري كموضوعٍ للنقاش. كما اعترف أنّ هذا أمرٌ بعيدٌ عن الحكمة ويحملُ كثيراً من النزق والحرية الفوضوية، وقد سبب لي ذلك الكثير من المشاكل مع أساتذتي على امتداد فترة دراستي. نعلم جيّداً أنّ الفيلسوف كانط قد كتب عام 1784 أحد أهمّ نصوص التنوير وأعني به "ما هو التنوير؟" Was ist Aufklärung ? بناءً على سؤالٍ طرحته المجلة الألمانية Berlinische Monatschrif. هل كان كانط ليتناول هذا الموضوع لو لم تطرحه المجلّة المذكورة؟ إن أحداً لا يعلم ذلك، ولكن لا بدّ أن الموضوع أثار كانط حينها وأعجبه فقرَّر الكتابة عنه. يفرض ملفّ "الرقابة بوجوهها وأقنعتها المختلفة" نفسه عليّ حيث أجدني متحرِّراً وبشكلٍ استثنائيّ من رقابة الذات لذاتها متملّصاً من أعين الرقيب الشخصيّ ومحرِّراً كلماتي كما لو كنتُ أُطلق سجناء الرأي من زنازنهم في عالمنا العربيّ الذي تحوَّل بفضل حكّامنا إلى دائرةٍ كبيرةٍ للرقابة والتفتيش وجنَّد شعوبه كمخبرين ورقباء على أحلام بعضهم البعض.
أياً يكن فإنّني سأحاول أن أُقارب موضوع الرقابة من باب مقاومة الرقابة وأعتقد أنّ مقال الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي "قوّة الرقابة ومقاومة الإبداع" المنشور على صفحات الأوان يتناول هذه الفكرة أيضاً.
إنّ ما أقصده بمقاومة الرقابة هنا هو محاولة فتح كوى في جدار الرقابة المُصمت وابتكار وسائل وأدوات وحيل وطرق وأساليب تُعْجِزُ الرقيب وتُؤكّد أنّ الكلمة النهائية هي للمقاومة ولحريّة الكلمة التي تتطلّع إلى كسر قيودها والتسلّل من بين أصابع الرقباء نحو النّور. إلا أنّ مقاربتي هنا ستكفّ عن كونها تأمّلاً فلسفياً في مفهوم الرقابة، ولكنها ستكون بالأحرى مقاربةً فنيّة أو سرداً درامياً بشكلٍ أو بآخر لأحداث فيلم Quills أو "رِيَشُ الكتابة" الذي تناول السنوات الأخيرة من حياة الماركيز دو ساد (1740-1814) حيث كان معتقلاً في مصحّ شارنتون للأمراض العقلية المعروف في فرنسا باسم Asile de Charenton. في ذلك المصحّ/ المُعْتَقَل قام دو ساد بالتحايل على الرقابة الحديدة المفروضة عليه واستطاع نشر الكثير من أعماله وهو في قلب دائرة الرقابة.
إنّ ما يهمّنا في هذا الفيلم هو تأكيده على تلك العلاقة الجدلية بين الرقابة وبين الإبداع المًُتولِّد عن مقاومة تلك الرقابة وهذا ما يوحي به عنوان الفيلم الذي جاء بصيغة الجمع quills " رِيَشُ الكتابة" ليقول إنّه لا توجد ريشةٌ واحدةٌ فقط يمكن مصادرتها وقطع دابر الكتابة، بل إنّ هناك إمكانية لا نهائية لابتكار ريشٍ آخر وآخر إلى ما لا نهاية. ومع أنّ المؤرّخين والنقاد قد انتقدوا الفيلم بأنه غير وفيٍّ للواقع وغير أمين لحياة الماركيز دو ساد، فإنّ ردّ القائمين على الفيلم يوضِّح تركيزهم فيه على علاقات الرقابة censorship وعلى فنّ الدعارة والجنس والأمراض النفسية والدّين.
الفيلم هو من إخراج فيليب كوفمان Philip Kufman وسيناريو الكاتب الأمريكيّ الشهير دوغ رايت Doug Wright . وقد قام بدور الماركيز دو ساد الممثل الأسترالي المعروف جوفري رش Geoffri Rush وشاركه في دور البطولة الممثل الأمريكي/ البورتوريكي جواكين فونيكس Joaquin Phoenix حيث لعب دور الراهب الكاثوليكي فرانسوا سيمونيه دو كولميه François Simonet de Coulmier الذي كان يشرف على المصحّ العقليّ والذي كُلِّف بمهمة فرض الرقابة على الماركيز دو ساد ومنعه من نشر مؤلفاته التي اعتُبرت فاجرة ووقحة وضد مبادئ ومعتقدات الكاثوليكية وهادمة لقيم المجتمع السليم وأخلاقه. أما بطلة الفيلم فكانت الممثلة الأمريكية الحسناء كيت وينسلت Kate Winslet التي ملكت علينا قلوبنا وغرائزنا في هذا الفيلم كما كانت قد فعلتْ بنا سابقاً في فيلم التيتانيك الذي قامت ببطولته إلى جانب ليوناردو ديكابريو Leonardo Dicaprio.
لعبتْ كيت في هذا الفيلم دور مادلين Madeleine المرأة الغسَّالة في مصح شارنتون حيث كانت السند الحقيقي لدو ساد الذي استطاع بفضلها تهريب مخطوطاته خارج إطار المصحّ وبعيداً عن أعين الرقباء لترى النور في النهاية حيث يتهافت عليها الناس ويطلبونها سِرَّاً رغم قوانين التحريم والمنع والتفتيش. تبدأ أحداث الفيلم في فترة "حُكم الرعب" أي في فترة الثورة الفرنسية حين كانت فرنسا محكومةً بسُلطَةٍ قائمةٍ على التمييز المُستنِد إلى القوّة وعدم المساواة والاضطهاد. وتعرض أولى المشاهد الماركيز وهو يقوم في سجنه بكتابة قصته حول الآنسة الأرستقراطيّة الشبقة رونار Renare التي تلتقي بساديّ مشهور بساديته.
ومع أنّ رقابة السُلطات الدينية الرسمية كانت قد أطبقت خناقها على مؤلفات دو ساد، فإنّ هذا الأخير ينجح بالتحايل مرَّةً أولى على الرقابة وذلك بإقناع الغسّالة مادلين بتهريب أوراق مخطوطه مع الغسيل حيث كانت تودعها بعد ذلك إلى فارسٍ مجهول يطير بها إلى ناشرٍ سريّ. وفي الحقيقة فإنّ قصّة دو ساد الشهيرة "جوستين" Justine كانت قد نُشرت في السوق السوداء أثناء اعتقاله في مصحّ شارنتون وحقَّقتْ نجاحاً مُنقطع النظير رغم أنف الرقابة والرقباء كما يروى أنّ نابليون قد أمر بإحراق كل النُّسَخ وبقتل الناشر. يعرض الفيلم كيف نصح المستشار دولبونيه سيده نابليون باجتثاث المشكل من جذوره أي بمنع دو ساد من الكتابة ومصادرة أوراقه وريش كتابته وأحباره والطلب من الراهب فرانسوا تشديد الرقابة على الماركيز.
وهذا ما حصل، ولكن هذه المصادرة قد حرَّضتْ لدى الماركيز ردَّ فعل عنيفا فما لبث أن ابتكر حيلةً أُخرى مبرهناً أنه لا توجد قوّة يمكن أن تمنع الكاتب من الكتابة. قام دو ساد بتحويل وجبة طعامٍ قُدِّمتْ له إلى ريشٍ للكتابة وأحبار اصطناعية بعد أن نسر عظمة الفروج وجعل منها ريشته وحوَّل النبيذ حِبراً له وغطاء المائدة أوراقاً لقصته الفضائحية الجديدة التي قام بتهريبها كالمرّة السابقة عبر مادلين التي أودعتها للفارس المجهول فإلى ناشرٍ سريٍّ جديد ثم إلى الجمهور المترقب.
ما أن علمت السلطات الدينية والسياسية آنذاك بصدور عمل ماركيز الجديد حتى أرادتْ أن تفرض عليه المزيد من الرقابة والصرامة بحيث تمنعه من استخدام أدواتٍ يمكن له أن يحوّلها إلى أقلام تهزّ عروش سدنة الظلام. وحيداً في غرفته التي جردوه من أثاثها يقوم الماركيز بكسر مرآته وتحويلها إلى ريشةٍ جديدة لمُؤّلَّفِه الجديد مستخدماً دمه كحبرٍ وملابسه كأوراق ومن ثمّ إعطائها لمادلين الغسالة التي قامت بتهريبها على أنها ثيابٌ متّسخة ثم إرسالها إلى الحريّة من جديد.
أثار عمل دو ساد الجديد السلطات التي عجزت أن تجد حلاً مع كاتب لا يعرف الاستسلام فقاموا بتجريده من ثيابه وتركوه وحيداً هو وجدران زنزانته بعد أن كشفت لهم عيونهم تواطؤ الغسَّالة مادلين معه وتهريب مخطوطاته حيث قاموا بجلدها وبمنعها من الاقتراب من زنزانته. بدون أقلام وبدون أوراقٍ وأحبار يقوم الماركيز بإملاء نصّ قصته الجديدة على مادلين التي قامت بتدوينها ولكن ولكونها لم تكن تستطيع الاقتراب من زنزانته فقد ابتكر دو ساد حيلةً جديدة لإيصال كلماته إلى برّ الأمان وذلك عبر توسّط مجموعة من مرضى المصحّ العقلي الذين شكَّلوا سلسلة من حملة الرسائل الشفهية حيث يقول الماركيز عبارته إلى جاره في الزنزانة وهذا ينقلها إلى جاره الآخر إلى أن تصل إلى مادلين في نهاية السجن.
يُعتبر هذا المشهد أحد أجمل مشاهد الفيلم حيث كثيراً ما كان الكلام المنقول يتبدّل ويتحوّر ويضاف عليه وفق مخيّلاتٍ المرضى الأمر الذي زاد عليه الكثير من التشويق والإثارة وغدا عملاً جماعياً تبدعه مخيّلات خلاّقة. أثار هذا الكلام الشبق الداعر أحد المرضى الذي لم يتوان عن مهاجمة مادلين محاولاً اغتصابها، ولكنه بدلاً من ذلك ينتهي بقتلها.
رغم أنّ راهب السجن كان قد أُخِذَ بأسلوب ساد الأديب الإيروتيكي وصار يحلم بمضاجعة مادلين متحرِّراً شيئاً فشيئاً من تزمّته الدينيّ وتشدُّده الأخلاقيّ، إلا أنه حمَّل الماركيز دو ساد مسؤولية قتل مادلين فقام بقصّ لسانه الذي اعتبره آخر ريش الماركيز. عاريا في زنزانةٍ عارية، مقطوع اللسان، ووحيداً بعد موت المرأة التي تواطأت معه على مقاومة الرقابة، تأخذ صحة الماركيز بالتدهور شيئاً فشيئاً، ولكنه يؤكّد عندها من جديد أن بإمكانه أن يخدع الرقابة من جديد فيستخدم يده كريشة كتابة وبرازه كحبر وجدران زنزانته كصفحات لقصته الداعرة الجديدة. بعد أن حُطِّم قلبه بموت مادلين التي أحبها وبعد أن يئس من قدرة ربّه على إصلاح روح الماركيز الملعونة يحاول الراهب في محاولةٍ أخيرة أن يضيء قلب دو ساد بالإيمان فيقدّم له الصليب كي يقبَِّله ويتوب إلى الله إلا أنّ هذا الأخير يُقَرِّرُ أن يموت نبيلاً فيبتلع الصليب منتحراً رغم أنف الرقابة من جديد.
يُفاجئنا الفيلم في النهاية بأنّ دو ساد قد خلَّف وراءه تابعاً وفيّاً. هكذا وبعد أن اعتُقِلَ ووضع في الزنزانة التي كان يشغلها الماركيز قبل موته، صار فرانسوا سيمونيه دو كولميه راهب المصحّ والمُكلَّف بمراقبة الماركيز دو ساد أديباً إيروتيكياً جديداً متحرِّراً من كل رقابات الدين والذات مُعَبِّرَاً عن حريته الفاجرة الماجنة متخلياً عن قناعاته الدينية مؤمناً بأنّ حرية الكلمات أقوى من أيّة رقابة ساخراً من بؤس الرقيب الجديد المتمثل براهبٍ حلَّ مكانه ليتولّى عملية "المراقبة والمعاقبة". لا شكّ أنهم لا يستطيعون إطلاق النار على الكلمات والأفكار فإنّ لها مقاومةً ضدّ الرصاص وضدّ النيران ولنتذكّر أنّهم مهما اغتالوا الأزهار فإنّهم لن يمنعوا الربيع من القدوم.
نقلا: عن الأوان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق