لم يخطر على بالي إطلاقاً أن حياة الفيلسوف أوغست كونت كانت هائجة أو عاصفة إلى مثل هذا الحد. فهي تشبه حياة الشعراء الملاعين من أمثال بودلير أو رامبو أو فيرلين، أكثر مما تشبه حياة الفلاسفة الرزينين والرصينين (أو على الأقل تلك الصورة التي نشكلها في أذهاننا عن الفلسفة والفلاسفة). نقول ذلك وبخاصة إذا كان الأمر يتعلق بمؤسس الفلسفة الوضعية في فرنسا. فقد اشتهرت هذه الفلسفة بالدقة العلمية، والاهتمام فقط بالوقائع التجريبية المحسوسة، والمعادلات الفيزيائية والرياضية. إنها أبعد ما تكون عن التحليق في سماوات المثالية الوردية، أو الخيالات المجنَّحة والشطحات الشاعرية أو الصوفية. إنها فلسفة العصر الصناعي والتكنولوجي الذي كان في طور انبثاقه أيام أوغست كونت إبان القرن التاسع عشر. وترجع أهمية هذا الفيلسوف بالضبط إلى أنه عرف كيف يستبق على هذا العصر الجديد وينظّر له حتى قبل أن يولد. هذا على المستوى العام. أما على المستوى الشخصي فقد كانت حياته مناقضة تماماً لفلسفته. لم تكن حياته وضعية، علمية، محسوبة بدقة، وإنما كانت متقلبة، مليئة بالخضّات والهزات السيكولوجية المخيفة. كل شيء يحصل كما لو أن فلسفته كانت تعويضاً عن حياته. بمعنى آخر: لقد خسر الحياة وربح الفلسفة. من الصعب أن تربح على كلتا الجبهتين، وعبثاً تحاول.. ينبغي أن تضحّي بإحداهن من أجل الأخرى. وقد كان المبدعون من العباقرة يضحون عادة بكل شيء من أجل النجاح في عملهم أو رسالتهم. كانوا يعرفون أنه ينبغي عليهم أن يضحوا بحياتهم الشخصية من أجل شيء آخر يتجاوزهم. العبقري "يحبل" بشيء واحد فقط في حياته: هو عمله أو عبقريته. وما عدا ذلك فتفاصيل ثانوية لا يعتدّ بها.
ولكن ليس من المؤكد أنه يستطيع التوصل إلى هذه الحقيقة منذ البداية، وإنما بعد المرور بتجارب رهيبة وخطرة أحياناً، تجارب يدفع ثمنها غاليا وقد تودي به. فكثيراً ما يضيع وقته من أجل التفاصيل الثانوية، قبل أن يكتشف في لحظة ما أنه ضل الطريق، وأنه قد خلق لشيء آخر غير الحب أو الزواج أو النجاح في الحياة أو الوصول إلى المناصب أو تجميع الثروات والأموال… في لحظة ما يشعر بأنه مدعو لتحقيق شرط واحد فقط: أن يشطب على حياته الشخصية إذا لزم الأمر. بمعنى آخر: عليه أن يفشل لكي ينجح!
لو أن ارنست همنغواي نجح في حبه الأول مع الممرضة "أنييس فون كوروفسكي" هل كان سيكتب "الشمس تشرق أيضاً" أو "وداعاً أيها السلاح"؟ الأغلب لا. كان ينبغي أن يفشل في أول وأعظم حب في حياته، أن ينكسر شيءٌ ما في داخله، ألا يلتئم جرحه إلا بعد سنوات طويلة، لكي يستطيع أن يكتب ما كتب. وهل كان غيّوم أبولينير سيكتب إحدى أجمل قصائد الشعر الفرنسي:
"تحت جسر ميرابو
يجري نهر السين
وحبُّنا…"
لولا أن "ماري لورانسان" قد أدارت ظهرها له وتخلت عنه؟…
لكن لنعد إلى أوغست كونت. فهذا الرجل الذي سيطرت فلسفته على فرنسا وعموم أوروبا طيلة القرن التاسع عشر وحتى منتصف هذا القرن، عانى الأمرّين في حياته الزوجية. والواقع أن قصة زواجه غريبة الشكل والمضمون. فقد تزوج من "عاهرة" محترفة معروفة من قبل الأوساط الباريسية كلها. والدليل على ذلك أنه هو شخصياً كان أحد زبائنها قبل بضعة أشهر فقط! ولم يكن يعرف أنه سيقع عليها يوماً ما في أحد المكاتب المحترمة وأنه سيسقط في حبها غصباً عنه. كانت "كارولين ماسان" امرأة جميلة يعربد جسدها فتنة وإغراء. وعندما يكون الجسد ينضح بالشباب إلى مثل هذه الدرجة من القوة فإنه تصعب السيطرة عليه. يصبح هو الذي يقودك ولست أنت الذي تقوده. من يستطيع أن يلجم الجسد الصاخب وهو في أوج انطلاقته وعنفوانه؟ هنا يكمن الخطأ الكبير للبروفيسور اوغست كونت. فقد أحبها وأشفق عليها وأراد أن ينقذها من مواصلة هذه "الصناعة" الرديئة: أقدم مهنة في العالم. وهكذا نقلها مباشرة من الرصيف إلى مكتب عمدة البلدية لكي يتزوجها! من يصدق ذلك؟ هنا تكمن عظمته ونزعته الإنسانية الحقيقية. ولكن المشكلة هي أن السيدة كارولين لم تستطع أن تتخلى عن عادتها القديمة ولم "تعقل" بعد الزواج كما كان يتوقع أستاذنا الكبير.
فكلما نقصها فستان جميل أو قبعة زرقاء نزلت إلى الرصيف وحلَّت المشكلة في أقل من نصف ساعة! وأحس كونت بالخطر، وخاف من "البهدلة" والفضيحة. وراح يبكي ويتوسل ويتهدد ويتوعد حتى تكفّ كارولين عن فعلتها. وهكذا يتصالحان على المخدة لمدة يومين أو ثلاثة، وذلك قبل أن تعود إلى سابق عهدها. وكانت أحياناً تختفي لفترة أسبوع أو أسبوعين متتاليين، ثم تتصل به لكي تعرض عليه فيما إذا كان يقبل باستضافة تاجر غني في البيت… وهكذا يتشكل الزواج من ثلاثة أشخاص بدلاً من شخصين فقط… كان من المتوقع في مثل هذه الحالة أن يتراجع الفيلسوف عن حلمه بإعادتها إلى جادة الصواب، ويطالب بالطلاق فوراً. ولكنه على العكس راح يتعلق بها أكثر فأكثر، ويركض في شوارع باريس باحثاً عنها، سائلا المارة، كلما اختفت. فالحب أعمى، الحب لا يرحم. الحب يشرشح ويذل. وقد وصل الأمر بأحد المنكوبين إلى حد انه وجه هذه النصيحة المجانية الى البشر قائلا بعد أن لعنت أسلاف أسلافه إحداهن: أرجوكم مارسوا كل الموبقات، ارتكبوا كل المحرمات، تاجروا حتى بالمخدرات، ولكن إياكم ثم إياكم أن تحبوا!!
كان يطرق على كل الأبواب سائلاً عنها وهو في حالة يرثى لها من الهلع والولع. ثم يعود إلى بيته خاسئاً حسيراً ويمضي الليل كله في تدبيج الرسائل غير المفهومة إلى أصدقائه ومعارفه راجياً منهم مساعدته في البحث عنها. وفجأة تظهر كارولين في صبيحة أحد الأيام أمام البيت، وكأن شيئاً لم يكن!…
ولكن بعد أن تكررت هذه القصص مرات عديدة، راح الفيلسوف يفقد أعصابه تدريجياً. حقاً لقد سحقته كارولين وأذلَّته أمام البشر. وراح يهذي ويتخيل أنه يشبه عيسى ابن مريم وأنه يستطيع أن يمشي على الماء دون أن يغرق. واصطحب كارولين معه في إحدى النزهات ودخل البحيرة وغطس فيها ودعاها إلى أن تتبعه. ولكنها فضلت أن تنادي الشرطة لكي ينقذوه. وهذا ما كان. وانقطعت دروس البروفيسور كونت بعد أن وصلت به الأمور إلى هذا الحد من "الشرشحة" والتدهور وفقدان التوازن. نقول ذلك على الرغم من أن "دروسه في الفلسفة الوضعية" كانت تستقطب شخصيات كبيرة من أمثال الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل أو الأب لامنيس، أحد كبار رجالات الكنيسة الفرنسية في عصره، او الفيلسوف والعالم اللغوي اميل ليتري صاحب القاموس الشهير الذي يحمل نفس الاسم… وانتشرت الإشاعة: لقد أصيب الفيلسوف بلوثة في عقله. فأحالوه إلى المصح العقلي وأشرف عليه أحد كبار الأطباء النفسانيين في القرن التاسع عشر: إيسكيرول. ونصحه بالاستحمام بالماء البارد عدة مرات في اليوم بدلاً من الغطس في ماء البحيرة.. ولكن عوضاً عن أن ينسى كارولين ومغامراتها التي لا تنتهي راح زعيم الفلسفة الوضعية –أي العلمية الإلحادية- يطالب بالزواج منها شرعاً أمام الكنيسة الكاثوليكية! وجن جنون تلامذته وأتباعه: كيف يمكن لزعيمهم أن يتراجع عن مبادئه إلى مثل هذا الحد؟ كيف يمكن ان يستسلم للكنيسة الرجعية ورجال الدين؟ لقد انتصرت كارولين بجسدها الفتان وعينيها اللتين تذبحان ذبحاً على أحدث النظريات الفلسفية! وماذا تساوي كل النظريات الفلسفية امام امرأة مشتعلة من لحم ودم؟ وتدخل الأب الليبرالي الشهير لامنيس لكي تقبل الكنيسة بهذا الزواج العسير على الهضم. فأرسل مطران باريس أحد كهنته لكي يباركه غصبا عنه. وعندما وصل الفيلسوف إلى الكنيسة ومثل أمام الكاهن مع كارولين طلبوا منه التوقيع على سجل الزيجات، فوقع باسم "بروتوس-بونابرت"! وأطلق ضحكة مجلجلة ومخيفة أشعرت الكاهن المسكين بالهلع الشديد…لقد جن الفيلسوف!..
ولكن هل أصبحت كارولين "عاقلة" بعد هذا الزواج الكنسي المهيب والمحترم إلى أقصى الحدود؟ في الواقع إنها أوهمت بذلك لفترة من الزمن. فقد لانت كثيراً وراحت تراعي الأستاذ الهش (أو المريض) وتهتم به حتى استعاد توازنه أو كاد. وما إن شعرت بأنه قد هدأ قليلاً حتى راح شيطان المغامرة يعربد في جسدها من جديد. فاختفت فجأة في إحدى الغزوات الليلية المحمومة. وعندئذ فضل الفيلسوف هذه المرة الانتحار في ماء النهر على ماء البحيرة. فذهب إلى أقرب جسر في باريس ورمى بنفسه من أعلاه الى نهر "السين" العريض. ولكن يبدو أن الموت لا يريده هذه المرة أيضاً. فقد شاءت الصدفة أن يمر في تلك اللحظة بالضبط أحد أعضاء الحرس الجمهوري فغطس عليه وانتشله. واقتاده إلى مقر البوليس، وبعد أن جفّفوا ثيابه وهدّؤوا من روعه اعترف بأنه مذنب، وأنه انصاع لحالة من الضعف المعنوي والنفسي. وشعر اوغست كونت عندئذ لأول مرة بحقيقته. وعرف أن أعماله العلمية أو رسالته الفلسفية بالأحرى هي المبرر الوحيد لوجوده على سطح الأرض. وأدرك أنها هي وحدها القادرة على أن تنقذه من حمأة الجنون. وبالتالي فما عليه إلا أن "يشطب" كلياً على كارولين ويكرس نفسه لتلك المهمة التي خلق من أجلها. وهذا ما كان. فبعد ذلك اليوم لم يسمعه أحد يتحدث عنها أو يذكرها مجرد ذكر. لقد تجاوز الفيلسوف محنته أخيراً واستطاع أن يبدع ما أبدعه ويخلد اسمه على صفحة التاريخ.
ثم وقع بعدئذ في حب أفلاطوني عذري هائج ولكن من نوع آخر أو نوع مضاد لفتاة تدعى كلوتيلد دو فو. وعلى الرغم من أنها رفضت حبه على المستوى الجسدي، ربما لأنه كان بشعا جدا مثل سقراط، إلا أنها قبلت زياراته والتراسل معه وكانت أديبة وشاعرة. وقد ماتت بعد سنة واحدة أو سنتين من حبه لها وتعرفه عليها. ماتت بين ذراعيه وهي تقول له: تذكر يا كونت أني أتعذب بلا سبب، بدون أن استحق هذا العذاب. ففي حياتي لم أضرّ أحدا ولم أؤذ بعوضة. ولكن هذه هي مشيئة الله. وقد جن جنونه لذلك وبكاها بكاء مرا. ولم يعزه عن موتها شيء. فقد ظل يزور قبرها يوميا ويضع عليه الزهور وينحني أمامه ويقبله مبللا إياه بدموعه حتى مات هو الآخر أيضا بعد عشر سنوات أو أكثر قليلا. وكانت النقيض المطلق لكارولين، حواء الغاوية. وقد أصبحت ملهمة المرحلة الثانية من حياة اوغست كونت: أي مسؤولة عن ذلك المنعطف الكبير الذي طرأ على الفلسفة الوضعية بعد عام 1845. بعد ذلك التاريخ راح اوغست كونت يأخذ العامل الديني أو بالأحرى الروحي بعين الاعتبار لأول مرة. فقد كانت متدينة جدا ومسيحية مقتنعة تماما على عكسه هو. وقد أثرت عليه كثيرا وهزته هزا. وهي التي ألهمته مفهوم "دين البشرية" الذي يتجاوز المفهوم المسيحي التقليدي للدين. وهكذا أصبح أبو الفلسفة الوضعية المادية الإلحادية صوفيا عاشقا هائما بحب الله بين عشية وضحاها! فسبحان مغير الأحوال. إنها معجزة الحبّ. ومن يتجول في باريس بين ساحة الباستيل وساحة الجمهورية قد لا يلتفت إلى وجود تمثال يتوسط حديقة صغيرة لفتاة ماتت في عز الشباب: إنها كلوتيلد دو فو ذاتها. فليتوقف أمامه لحظة وليخشع قليلا ليس فقط لأنه جميل أو لأن صاحبته ماتت في الثلاثين من عمرها بدون سبب وإنما أيضا لان مؤسس الفلسفة الوضعية(أي إحدى أهم الفلسفات في العصور الحديثة) كان يعبدها يوما ما..
في الواقع إن مفهوم البشرية حل محل مفهوم الله في المنظور الوضعي الجديد الذي أسسه كونت. فقد اكتشف أن الناس لا يستطيعون أن يعيشوا بدون شيء أعلى يقف فوق رؤوسهم، شيء يتجاوزهم ويتخطاهم ويحبونه إلى درجة العبادة. باختصار فإنهم بحاجة إلى دين. ولذلك بلور لهم هذا المفهوم الجديد وقال إنّ على الناس أن يعبدوا منذ الآن فصاعدا البشرية ككل لان العقائد اللاهوتية لم يعد لها معنى بعد ظهور العلم والصناعة والتكنولوجيا. وقال لهم بان محبة البشرية، كل البشرية، والعمل من اجل تقدمها وسعادتها، ينبغي أن يكون هدفنا في المستقبل وغايتنا وديننا. ثم قال بان الرجال العظام ينالون الخلود الذاتي بعد موتهم عن طريق تكريم الأجيال المتلاحقة لهم ولذكراهم. واما خلود الروح والبعث بعد الموت فلم يعد ممكنا الإيمان بهما في عصر العلم.
بقيت كلمة أخيرة عن الست كارولين قبل ان أختتم هذا المقال. يقال بأنها تابت توبة نصوحا في نهاية المطاف بل وأصبحت تحضر دروس الفيلسوف مع بعض الشخصيات الفرنسية والأجنبية. وكانت تجلس في الصفوف الخلفية وتصغي بكل خشوع لأكبر فيلسوف فرنسي في القرن التاسع عشر والذي كان زوجها حتى أمد قريب. ولكنه رفض مصالحتها رفضا باتا وأهانها أمام الجميع إلى درجة أن تلميذه اميل ليتري انزعج من موقفه وترجاه أن يقبل اعتذارها. ولكنه كان قد طوى الصفحة نهائيا بعد ان عذبته كثيرا ولم تعرف من هو إلا بعد فوات الأوان. يضاف إلى ذلك أن حبه العذري الجنوني لكلوتيلد دو فو طهر روحه وصفاها وجعله يتجاوزها كليا. وقد نشرت مؤخرا في باريس رسائلها معه بعد مائة وخمسين سنة على وفاتها! كنا نعرف رسائله إليها منذ زمن طويل ولكن لم يكن أحد قد اطلع حتى الآن على رسائلها هي. وبعد أن نقرأها نكتشف أنها كانت تستحق الاحترام أكثر مما نتصور. حقا لقد شوهت الإشاعات سمعة كارولين ماسان أكثر مما ينبغي. صحيح أنها لم تكن ملاكا، ولكن من يعرف ظروفها؟ وأنا شخصيا أعتذر عن استخدام كلمة "عاهرة" هنا ولذلك وضعتها بين قوسين لأني اكرهها جدا ولا أعترف بها.
ولكن يبقى السؤال مطروحاً: كيف يمكن لفيلسوف كبير في حجم اوغست كونت أن ينحدر إلى مثل هذا الدرك الأسفل، ثم يرتفع الى أعلى عليين؟ كيف يمكن له أن ينهار، أن يجنّ، أن يفكر بالانتحار اكثر من مرة ؟ كيف يمكن له ان يسقط في حب "عاهرة" بنت شارع؟ ولكن ألا تكمن هنا عظمته؟ على أي حال للإجابة عن هذه الاسئلة وكثير غيرها ينبغي أن نغيّر نظرتنا كلياً عن العبقرية الفلسفية، وربما عن كل العبقريات الأخرى. فالعبقرية لا تعني التوازن الكامل أو المطلق على طول الخط كما يتوهم الرأي الشائع عندنا. هذا ليس عبقرية، هذا غباء. العبقرية تعني أن تعرف كيف تستعيد توازنك بعد أن تفقده، أو بعد أن تميد من تحت قدميك الأرض!…
اشكركم على هذه المعلومة
ردحذفاشكركم على هذه المعلومة
ردحذف