قبل ربع قرن تقريبا، كان ممثلو التاريخ الرسمي من الراسخين في العلوم الإنسانية، والذين تسمرت مؤخراتهم على كراسي الأستاذية، يبتسمون بسخرية، وينظرون بشفقة إلى أولئك الهراطقة من المؤرخين الجدد، فتاريخ الحقب والأمبراطوريات وسلالات الملوك، والأحداث والحروب، هي من المسلمات والحقائق الساطعة كالشمس، وما تم تشييده في القرن السادس عشر بواسطة المؤسسين العظام من أمثال سكاليغر وبيتو، أصبح كالرواسي لايهتز أمام تخرصات بعض الصعاليك، الذين بدوا وكأنهم جزء من موجة الهستيريا التي ضربت العقلانية الأوروبية( أواخر القرن العشرين) وبإمكان المرء أن يبتسم لهم كما يفعل مع مشعوذي الأطباق الطائرة، أوأنصار العلاج بالأعشاب، والإيزوتيريك ( والتأمل واليوغا والتصوّف) لكن الأمر بدأ ينقلب تدريجيا، فتلك العلوم الراسخة( وفق نظرية المرحوم أبو عمار: يا جبل مايهزك ريح ) بدأت منذ عام 1980م تتلقى أسئلة محرجة، حتى بدأ الشك يتسرب إلى الأكاديميات نفسها( التي مازال أساتذها يرطنون باللاتينية خلال بروتوكول تقليد شهادات الدكتوراة للطلبة )لكن من هم أؤلئك الصعاليك، الذين سببوا كل هذا الإزعاج والصداع؟؟ ولماذا أصبحت كتبهم تثير لهفة القراء،، بعكس الكتب التقليدية التي تعود أكداسها إلى مخازن الناشرين؟ كيف يجرؤ هؤلاء، على التشكيك بالمسلمات والحقائق والعقائد وتاريخ الأديان وبتسلسل الدول وسلالات الملوك والمعارك، وبالتقاويم والأزمنة المعتمدة؟
وبإختصار ولتعميم الفائدة، أود أن أقدم هذا التيار من النقاد ( أو المهرطقين أو المجانين كما يحلو للبعض تسميتهم ) آملا التعرض لاحقا إلى منهجهم النقدي التشكيكي، فهم بكل الأحوال لايشكلون مدرسة متجانسة بعينها، بل تيارا إحتجاجيا صاخبا ( جذب القراء ووسائل الإعلام بقوة ) وحرك المياه الراكدة. أما السبب وراء إهتمامي الشخصي فيعود إلى غضب مكبوت( تجاه تاريخنا المؤسطر ) ومحاولة متواضعة للتعريف بهذا التيار، والإضاءة على إشكاليات النقد ، التي تتميز بسقوط المسلمات واليقينيات، والعودة مجددا لتفحص الوثائق والمخطوطات والمسكوكات وأنماط العمارة..إلخ، أما الدافع الأخير فهو عبارة عن تعاطف، بسبب الحملة المبطنة ضد هذا التيار، حيث يصار بين الفينة والفينة إلى إتهام بعض كتابه ( بعداء السامية ) تلمحيا أو تصريحا، وهي تهمة جاهزة ومرادفة يُوصم بها عادة من يحاجج مراكز الأستذة الآكاديمية في جامعات الغرب( خصوصا أقسام العلوم الإنسانية )، التي يسودها تنافس وظيفي صامت وسلطوية هرمية ذات( طابع يهومسيحي) تخشى من إهتزاز الصورة العامة للتاريخ الرسمي السائد أو تهافت معتقداته (الأورو مركزية). وأجد من المناسب وتذليلا للصعوبات االمركبة، تقديم نبذة أولية عن هؤلاء، في محاولة للتعرف على الأطار العام لأفكار هذه الجوقة، والتي تدعو بإختصار إلى إعادة بناء وتركيب التاريخ البشري والطبيعي وتشذيبه وتقصير حقبه الزمنية
W. Kammeier
فيزيائي ألماني يعمل في برلين، ومن مواليد 1957 وأحد النقاد القساة للداروينية، عُرف بكتابه ( الآخر في داروين : عام 1988 ) وكتاب ( كواكب وآلهة وكوارث 1991) وهو من المتحمسين لفرضية هربرت إليغ عن القرون الوسطى المختلقة( وهي فرضية سيتكرر الحديث عنها، بسبب دورها المحوري في أعمال هؤلاء النقاد وتشير إلى أن التاريخ بين 614م و911م هو زمن شبحي، لذا فهم يطلقون تلك 297سنة إسم السنوات الشبحية أو الوهمية ) وكذلك فقد إشترك مع هانس نيمتس في كتاب ( إنهيار نظرية الكربون14)وفيه نقد جوهري لطرق التزمين بواسطة علوم الطبيعيات.وهذا الكتاب من أهم الدراسات النقدية التي تعرضت لمدرسة ليبي مكتشف نظرية الكربون 14، والحائز على جائزة نوبل؟
Eugen Gabowitsch
Gunnar Heinson
H. Illig
Christoph Pfister سويسري من برن، أستاذ في التاريخ الحديث، وهو أكثر ناقدي التاريخ قسوة وضرواة ، ومن دعاة تقصير عمر الحضارات براديكالية، ومن أنصار الكوارثية، ويُكذب كل التواريخ المعتمدة رسميا، ويعتبر أن عمر الحضارة، من مصر القديمة وبلاد الرافدين لحد الآن بالكاد يبلغ ألف سنة!!!ويظن أن الأغريق والرمان والكلت هم من إختلاق عصر النهضة، وأن بانثيون روما ( معبد الآلهة ) بُني في القرن السادس عشر ميلادي، وكذلك يجزم بأن اللغة العبرية، هي لغة تم توليفها( صناعيا) في القرن 16م، وكذلك الأناجيل وكتابات الأنتيكا، وكل التاريخ قبل 1000م هو من إختلاق سكاليغر وبيتو
Gerard Serrad
فرنسي وهو مع بفيستر الأكثر تطرفا، إذ يعتبر التاريخ قبل البابا غريغور الثامن 1582م، لوحة تجريدية رسمها المؤرخون
.Hans Zillmerيعتقد كما توبر وفومنكو، بأن المدوّنات التاريخية للأنتيكا قد تم إختلاقها قبل ألف سنة وتم إسقاطها على عصور سحيقة ، بواسطة التكرار، ويظن أن الإمبراطورية الرومانية لم تكن موجودة في روما !! فالرومان الحقيقيون هم شعب الإتروسكا، اوهم من أسس مدينة روما، وهم نفسهم (أي الإتروسكا ) الإغريق الذين سيطروا على جنوب إيطاليا وصقلية، أما سبب إختلاق الموروث التاريخي، فيرده تسيلمر إلى كارثة طبيعية حدثت في القرن السادس، ويدعم أيضا فرضية إليغ ، لكنه متأثر بجاك ماهيو صاحب الكتب الثمانية، الذي فر إلى الأرجنتين في أعقاب الحرب الثانية بعد صدور حكم بإعدامه 14مرة ، لإنضمامه إلى سلاح إس إس الألماني.
R. Baldauf أستاذ الفيلولوجيا في جامعة بازل في سويسرا عام 1900م ، من مؤسسي تيار النقد ، إذ يعتقد في كتبه، أن تاريخ الأنتيكا المسيحية والقرون الوسطى من إختلاق عصر النهضة .
A.Fomenko روسي، أستاذ للرياضيات والأحصاء في جامعة موسكو ، قام بتطبيق برامج إحصائية على المصادر التاريخية لعصر الأنتيكا ،والقرون الوسطى ووصل إلى أن تلك المصادر مُختلقة، وتواريخ كثير من الحقب ليس أكثر من (قصائد شعرية ) أو تكرار لمتوازيات من الأحداث والشخصيات والسلالات والحروب المكررة والمتشابهة، ويعتقد فومنكو أن كتاب المجسطي لبطليموس كُتب حوالي 1000ميلادي وهو الزمن التقريبي لظهور المسيح حسب رأيه
E. Velikovskyصاحب النظرية الكوارثية المنوّه عنها، روسي ، توفي عام 1979 ، وعرف بكتابه ( أزمنة في فوضى ) ، يرى على سبيل المثال أن التاريخ المصري القديم( عصر السلالات الوسطى ) قد تم تطويله( مطّه) حوالي 550سنةهذه هي أهم الأسماء المعروفة في تيار نقد التاريخ، وقد إستقيت جل المعلومات عنهم من معارضيهم (نشرة حول نقد النقد التاريخي ). وقبل إنتهاء حفلة التعارف هذه، وجدت من المناسب عرض نموذج بحثي ومعرفة الإشكاليات المطروحة، وأدوات السؤال والتحليل المعرفي، التي ينهجها هؤلاء، ووقع إختياري على نص لأوفه توبر يناقش فيه مجلة ((المناخ ))، التي صدرت في ألمانيا في القرن الخامس عشر، ومازالت تصدر لليوم (وتلفظ بنفس طريقة النطق العربية)، وكانت قبل إختراع المطبعة تستنسخ يدويا ويتداولها العلماء لرصد وتجميع المعلومات الفلكية ودراسة الطقس، وتحديد الأعياد ومواسم الزراعة ، وفي هذه الدراسة يتناول توبر (( المناخ )) أو كتاب (الأنواء لإبن عاصم القرطبي ) وفق منهج جدير بالإنتباه. )
(Almanachالمناخ )
مجلة المناخ عرفها الفضاء الألماني منذ القرن 15م ، وأصدرها بيورباخ Peurbach في فيينا عام 1460م قبيل إنتشار الطباعةوكانت تقدم معلومات عن الطقس والنجوم والعمل والزراعة والملاحة البحرية، وتعتمد نظاما فلكيا سابقا للإسلام، تم بموجبه تقسيم السنة إلى ثمانية وعشرين نجما، يسمى كل منها ( نو: وجمعه أنواء) ويساوي النو الواحد ثلاثة عشر يوما وعادة مايبدأ ببزوغ أحد النجوم، وينتهي بغروب نجم آخر، يقوم بتحديدها رقيب فلكي. وعليه يتم إصدار الأحكام المناخية وإتجاه الرياح وبداية الربيع، ومدة السنة الفلكية .. إلخ وبعد هذه المقدمة المقتضبة يدخل توبرTopper في تفاصيل (مناخ) إبن عاصم القرطبي، أو كتابه الأنواء والأزمنة الذي يعود، إلى 1000ميلادي تقريبا (حققه الإسباني ميغيل فوكودا مينيوز في برشلونة :1993 بإستخدام مخطوط عربي موجود في إستانبول ومؤرخ بعام 497 هجري 1104م، ويشير ناسخه إلى أن المؤلف هو إبن عاصم عبدالله بن حسين الملقب بإبن غربالي.وحسب رأي ميغيل فإن كتاب إبن عاصم، يخدم أغراض عديدة ويقدم أفكارا عن التقاليد الفلكية القديمة (ماقبل إسلامية) وبنفس الوقت، يمكن إستعماله من بسطاء السكان في الأندلس، لمعرفة التوقعات والمعلومات المناخية والتقويمية (الروزنامة) لكن الملاحظ، أن مزجه بين بين المعلومات (الماقبل إسلامية ) واليونانية الكلاسيكية جاء مرتبكا. ثم يقدم توبر نموذجا عن فوائد ( المناخ )كما ترد في حديث إبن عاصم عن أحد الأنواء: فبعد مقدمات طويلة عن أحوال النجوم، ومنازل القمر، وأحوال الطقس يذكر مايلي :
بداية الفصل ــــــــــــــــــــــــــــ مدته حسب الفلكيين العرب ــــــــــــــــــــــــــ مدته حاليا
الربيع : يبدأ ليلة 20مارس ــــــــــــــــــ94 ليلة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ93
ليلةالصيف 22يونيوــــــــــــــــــــــــــــــــ 93 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 93
الخريف 23سبتمبرـــــــــــــــــــــــــــــ 89 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ90
الشتاء 21ديسمبرــــــــــــــــــــــــــــــــ 89ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 89
وعموما تم إختيار 22 من الشهر لتحديد يوم إلتقاء نقاط الكاردينال( تساوي الليل مع النهار في حالة الإنقلاب الربيعي والخريفي) لأغراض التبسيط، وعلى سبيل المثال أعتبر 22 مارس موعد دخول الشمس في برج الجدي، وهذا يصادف يوم خلق العالم ( كما في تقويم قرطبة ) وسُُميّ كذلك موعدا لعيد الفصح، وإعتبر الأول من يناير بداية للسنة الشمسية ؟؟ وهنا يتدخل توبر مستفهما ومستغربا: إن هذا يشي بحساب كاثوليكي؟؟، فالمسيحيون من الأندلسيين المستعربين، كانوا يحتفلون بيوم الخلق تماما كالأرثودوكس ( في 25 مارس )!!ثم يسأل : كيف توصل صانع التقويم (إبن عاصم) إلى هذه المعلومات، وهو يزعم بأنه أخذها عن الأسبقين؟ فالمدهش أن معلوماته تتطابق مع مع حساب التقويم الغريغورياني ( 1582م) الذي يعتبر الأول من يناير بداية السنة، والذي يضيف يوما كبيسا إلى فبراير كل أربعة أعوام ليصبح 29 يوما!! ويحتفل بعيد ميلاد يوحنا في 24 يونيو، كيف يكون ذلك والتاريخ الرسمي يخبرنا أن الأندلسيين (حوالي1000م ) كانوا يستخدمون التقويم الشمسي اليولياني ؟؟
ويختم الكاتب نصه، بجدل لساني حول لفظ ( المناخ )فيقول: إن إشتقاق الكلمة غير معروف، ومن المحتمل أن يكون عربيا ، لكن العرب يسمون أحوال الطقس نو: وجمعها أنواء ، أما معجم الأكاديمية الملكية الإسبانية :فيرى أن الكلمة الإسبانية Almanaque تعود إلى كلمة مناخ العربية، والتي تعود إلى جذر لاتينيManachus يعني ( دورة شهرية) لكنه يستدرك ثانية ويعود إلى الفعل العربي ( ناخ:الجمل ، أو مكان إستراحة، يشترط طقسا مناسبا وصحيا، وبالتالي فإن الكلمة تحول مجازي من مناخ الإبل إلى أحوال الطقس )، وينتهي بجملة تقول: الحقيقة أن الكلمة دخلت اللاتينية في القرون الوسطى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق