إن فهم الليبرالية الطازجة أمر ليس يسيرا.. وقد يحتاج فهمه وتفكيكه الي لحظات عبقرية (ماأزال أنتظرها عبثا) فالليبراليون ليسوا ثلة من مثقفي المارينز أو قارعي الطبول، وليسوا ظاهرة صوتية، كما يحلو للبعض...
هم خليط من الرؤي والآراء والأفكار العديدة بعدد أصحابها.. هم من الغاضبين الساخطين، وكثير من الماركسيين الذين فروا بجلودهم ابان غرق السفينة السوفيتية، انهم مثقفون رسخوا يوما في علم المادية التاريخية، وشعراء أنشدوا بخشوع قصائد مايكوفسكي ونيرودا، وبعضهم يمثل الأقليات المنبوذة، التي ضاع صوتها وسط أوركسترا الهرج والمرج.. أو من الذين حطت رحالهم في المعمورة.. فالتقي احباطهم (الثوري والجنسي والمادي) مع احباط عالمنا العربي، الذي يعاني هو الآخر من العجز الحضاري، وانسداد الشرايين، ودخول أنظمته سن اليأس.. الي هنا سارت الأمور علي مايرام، لولا غزوة مانهاتن، التي كانت هزتها لاتقل ضراوة عن سقوط الاتحاد السوفييتي، هزة استطاعت أن تخلخل بنيان البترودولار العربي، وترغمه علي القاء بعض من حمولته الوهابية الثقيلة، ويستبدلها بما خف وزنه وغلا ثمنه (استثمارات في الأسهم، والميديا الجديدة، وسوق الفيدو الكليب والجواري والحسان).
ان هذا التحول البنيوي العميق هو الذي فرض نفسه وطالب بخلع الدعاة الملتحين والسلفيين القروسطيين، واستبدالهم بحقين من فئة المتقاعدين الثوريين (بما يرضي الله والبيت الأبيض والفوضي الخلاقة) في هذا الاطار يمكننا أن نأخذ بنظرية المؤامرة، ونوجه أصابع الاتهام، الي بعض الليبراليين العرب الجدد من مرتكبي الجرائم الفكرية، ونطالب بمحاكمتهم علي ما اقترفت أقلامهم، أسوة بالذين حوكموا بتهمة عداء السامية ...أما الآخرون (وهم كثر) من الذين جرفهم التيار (عن حسن نية) فهم أشبه بمبشري الكنيسة، الذين تدفقوا الي أدغال أفريقيا واعظين بملكوت السماوات، ومطالبين تلك الشعوب البائسة أن تغسل نفسها من أدران الخطيئة، وتسمو فوق حطام الدنيا الفانية (لا أدري أي حطام ملك هؤلاء) لتظفر بنعمة الخلاص المسيحي. في نفس الوقت الذي كان فيه الجنود البلجيك يقطعون آذان السكان الأصليين ويجدعون أنوفهم، ليثبتوا لآمريهم أن رصاص بنادقهم لم يذهب في اللهو وصيد الغزلان! وفي عين المكان والزمان كان الرأسمال الأوروبي الفتي آنذاك ينهب مناجم الذهب والنحاس والألماس في سباق محموم، ويفل الآلاف في حقول المطاط والعبودية.. ما أشبه اليوم بالبارحة.. فالمبشرون الليبراليون يتسابقون اليوم في أدغال الانترنت، واعظين ايانا بملكوت أمريكا باعتبارها طريق الخلاص والأبدية والبحبوحة والرفاه والبنين ..
كل ذلك يحصل، وطيارو الحلفاء ينشرون الديمقراطية (بضغط الأزرار) وقوات المارينز توزع رصاص (عقوق الانسان) علي كل من يرفع يده، ليحك رأسه.. فتفوح رائحة الجثث المعصوبة، والرؤوس المثقوبة بمثاقب التهيج الطائفي.. تاركة وراءها آلاف اليتامي والثكالي.. وبينما تسير النعوش ملفوفة بالخرق والدماء، يتبادل مدراء الشركات الكبري العقود والصفقات والتواقيع والابتسامات، ويرفعون كؤوسهم.. في صحة الليبرالية الجديدة.
نادر قريط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق