كلما أقرأ ( حوارية السيد والعبد) أحس بغبطة، قلما أشعر بها ..فهذا النص البابلي القديم، (برأيي المتواضع) واحد من درر الأدب الإنساني، وكم حسدت كاتبه المجهول وتمنيت في قرارة نفسي ، لو أستطيع أن أكتب مثيلا له..وتتجسد عبقرية هذا النص في تشكيكه بأصول ومرتكزات خيارنا الأخلاقي وقدرته الفذة على منح السلوك الإنساني قيمته النسبية؟ وإليكم بعضا من ترجمته :
+ أيها الخادم، اصغ إليّ..
نعم سيدي نعم
+سأمارس أعمالا غير مستقيمة..
افعل ذلك، افعل. فإنك إذا لم تأت أعمالا غير مستقيمة، من أين لك بلباسك، ومن يقدم ما يملأ معدتك
+كلا أيها الخادم . لن أمارس أعمالا غير مستقيمة..
.لا تمارس عملا غير مستقيم، سيدي، لاتفعل ذلك، من يفعل ذلك إما أن يقتل أو يسلخ جلده وإما أن تقلع عيناه أو يرمى في السجن
+ أيها الخادم، اصغ إلي...
نعم سيدي نعم
+ سأمارس الجنس مع امرأة..
.افعل لك سيدي، مارس الجنس مع امرأة. فإن مضاجعة النساء تنسي الرجل همومه ومتاعبه
+ كلا أيها الخادم ، لن أمارس الجنس مع امرأة ..
لا تفعل ذلك يا سيدي. فالمرأة شركّ، وحفرة، وخندق إنها خنجر حاد يحز رقبة الرجل
+ أيها الخادم أقرض الناس مالا.
.أقرض الناس مالا سيدي، اقرض مالك. إن من يقدم قرضا يحافظ على محصوله من الحبوب، ويجني فائدة على ماله
+كلا أيها الخادم ، لن أقرض الناس مالا.
.لا تقرض مالك سيدي، لاتقرض، فتقديم القرض سهل كممارسة الجنس، ولكن سداده صعب كالحمل والإنجاب
+ أيها الخادم سأقوم بعمل صالح يخدم بلادي.
+كلا أيها الخادم لن أقوم بعمل صالح يخدم بلادي.
.لا تفعل ذلك أبدا ..إذهب إلى خرائب المدن القديمة، وتمشى بينها. انظر إلى جمجمة الإنسان الوضيع، وجمجمة الإنسان العظيم، هل تستطيع التفريق بينهما؟ هل تستطيع التمييز بين من قدّم خيرا ومن قدم سيئة؟
لابد من الإعتراف أن هذا النص ذريعة لتناول علاقنا باللغة، خصوصا العربية ، التي يبدو أنها أوصدت أبوابها أمام النسبية، تاركة فضاءها الدلالي، مشحونا بالشعر والميثولوجيا ، والثنائيات المانوية( خير، شر)( ليل ، نهار) ( كفر، إيمان) وخاضعا لهيبة المقدس وسلطته المطلقة ...فاللغة من الجوهر ، مقاربة للعالم الحسي والتجريدي، ووعاء للعقل ونطاق وحيّز له..أي أن الكلمات ودلالاتها، محاولة إدراكية واعية لتحيين وتشييئ( صورة العالم في ذواتنا) لكن اللغة إذ تتصيّر تاريخيا من طور المأمأة إلى الحضارة فإنها تصبح سلطة وقوة رمزية تستطيع( استطاع :أي استفعل الطاعة في الآخرين) أيضا أن تتلاعب بالواقع وتسحقه وتطمسه عبر تقنيات البلاغة والشحن النفسي والخطابة والأمثال,, !! هل يمكننا مثلا إغفال جملة ( الله أكبر ) و دورها في لحمة الإجتماع الإسلامي، ناهيك عن وظيفتها في الحروب( أو حتى في المسلسلات الدينية أو فلم الرسالة أو تفسير سقوط الطائرة المصرية ) وما تحمله من شحنة رمزية يندر وجودها في اللغات الحداثية، وقد يكون هذا المثال معبرا مهما لتصوير ارتباك خطابنا في العقل الغربي..وهذا مايحاول ان يؤكده الفيلسوف المعاصر هابر ماس( فيلسوف لسانيات) في دراسته عن حرب بوش على مايسمى الإرهاب؟ تكاد اللغة العربية تمرر خطابها بموازاة العقل الغربي دون أن تلامسه والعكس،( إنها مشكلة عدم فهم متبادل وعدم مقدرة على الإبلاغ )..وعدم التقاء معرفي ابستمولوجي بين لغتين ومنظومتي إدراك !! عندما سمعت جورج بوش يربط انسحابه من العراق بهواجس جدية وخوف من حدوث 11 سبتمبر جديدة... ضحكت من مقاربته السخيفة، فالرجل يبدو وكأنه مقتنع بحربه على الإرهاب، وما لمسته من خلال متابعتي للميديا الأوروبية يدل على أن الغرب يستوعب خطابه بحدود ما!! لكن السؤال الذي يتجنبه الكثيرون:
لماذا تصبح الحرب على الإرهاب، مقدمة لتفتيت بلدان فسيفسائية وتجمعات تاريخية( سوريا التاريخية والعراق)زاخرة بالتنوير والعلمانية والتنوّع؟؟ في حين تترك مفارخ الإرهاب الحقيقي المسؤولة فعلا عن 11سبتمبر بمنأى من القصاص( هم يعرفون أين هي.. أكثر مني ) ألا يكشف هذا زيف الإدعاء وخبثه وسوء نيته!! الأمر يبدو مختلفا عند مفكر آخر من طراز إدوارد سعيد، الذي يقتبس في ( الثقافة والإمبريالية ) مقولة مؤداها : أن القوى العظيمة لاتملك الأساطيل والجيوش وحسب، إنما اللغة التي تدّقها في فم المقهورين...كثيرا ما تساءلت عن موت الزرقاوي؟؟
( الذي لم أحفل بحياته ولا مماته )هل انتهت مهمته؟ أقصد مهمته اللغوية؟ رغم ما يمتلك اسمه من موسيقية وعذوبة ، جعلت الرئيس بوش يردده بتلذذ، وكأنه يلحس حروفه..سركاوي.. سركاوي ..هل كان موته في وقت تزامن تقريبا مع تفجير مقام سامراء( المسجد الذهبي للإمامين العسكريين ) في آذار 2006محض صدفة!! أليس من العبث أن يفجر السنّة مقاما عاش بينهم مئات السنين؟؟هل أن الأمر إيذان بولادة لغوية جديدة وخلق معادلة حسّية( فرق الموت، صولاغ، أبو درع...) لتصبح الحرب الدينية وتقسيم العراق قدرا لا مفر منه؟؟وحتى لو أجرنا عقولنا، وصدقنا بأن لبنان والعراق، هما كوم من القش الطائفي يمكن احراقه بعود ثقاب!! فما بال فلسطين الموحدة إثنيا ومذهبيا ؟ . إننا مع الأسف لانزال أسري الثنائيات القاتلة، وكما يقول أمير الدراجي:
حرية الإختيار بين مثاقب صولاغ أو قبور صدام...فاقناعنا بأن قناصة المارينز، ونهم الشركات وجشعها هي بدائل للمدنية والحداثة الإنسانية، نكتة سمجة لاترقى إلى ثقافة البابلي .
+ أيها الخادم، اصغ إلي.
.نعم سيدي ، نعم
+ماهو الخير في رأيك إذن.
.أن يدق مني ومنك العنق ونرمى في النهر، فمن يستطيع في هذه الحياة أن يتطاول فيرقى السماء ، أو يتسع فيحيط بالعالم
( الترجمة مقتبسة من كتاب الأسطورة والمعنى لفراس السواح)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق