مقدمة:
بعد تردد وشك من جدوى هذا الموضوع حزمت أمري على تقديمه في مطالعة طويلة لاتخلو من الملل، فدراسة القصة الدينية ومواكبتها أصبح يصيب بالغثيان وفقدان الروية، ولا أخفي أن الإلحاح في هذه القصة، قد يعني ضلوعا لا مباشرا في تثبيتها ويُقدم دعاية مجانية لها.
هذا ما إكتشفه أيضا كتبة المقدس مبكرا عندما قدموا تقاليدا وقصصا متضاربة ومتناقضة أو عندما إختلقوا خصوما وهميين ومنحولات وهراطقة، وتركوهم يبثون الروايات المعارضة. فوجود معارضين ونقاد لفكرة ما، يثبت أيضا أن الفكرة مهمة وجديرة وتستحق. مع أنها في الجوهر لاتسحق لفتة ( ويمكن قلبها) وبعيدا عن السهو، نبدأ القصة من آخرها ومن الكتاب الأخير لابل من خلاصاته الأخيرة، فالسيدين فنكلشتاين وسليبرمان قدما خلال الأعوام القليلة الماضية عملين مدهشين وماكرين، فرضا حضورهما على الساحة الثقافية.
مدهشان لما حققاه من سمعة عالمية ورصانة أكاديمية ومناقبية بحثية، إضافة إلى خوضهما غمار المعركة مباشرة في ساحات الآركيولوجيا والآثار الدارسة. فإسرائيل فنكلشتاين (مواليد 1949) كان رئيسا سابقا لمعهد الآثار وأستاذا في جامعة تل أبيب، ورئيسا لفريق التنقيب في موقع "مجيدو" وهو من أكابر علماء الآثار الإسرائيليين المجددين، هذا ما تقوله دار بيك Bechالألمانية التي ترجمت ونشرت الكتابين، وهي من دور النشر العريقة والمحترمة. أما رفيقه نيل سليبرمان (مواليد 1950) فهو أيضا رئيس لمعهد آثار في بلجيكا وبما أنيّ سارعت بنعت الكاتبين بالمكر فأرجو أن يؤخذ الكلام من قبيل الإطراء، (ولا ننسى أن القرآن وصف الله بالمكر!!).
فالكاتبان لفا ودارا حتى دوّخا القارئ، فلما داخ قالا له بخجل بالغ وأسف شديد: البقاء بحياتك. فقصة إسرائيل القديمة منذ خروج إبرام بن تارح (إبراهيم) من أور كيسديم حوالي 2000ق.م مرورا بعصر الآباء إسحق ويعقوب ويوسف والإقامة في مصر ثم الخروج بقيادة موسى حوالي 1200ق.م وإحتلال كنعان وتأسيس المملكة الموحدة لداوود وسليمان حوالي1000ق.م (التي إنقسمت إلى مملكتي يهوذا وإسرائيل) كل هذه الأحداث ليست أكثر من نسيج أسطوري حبكته الفانتازيا وأجيال الكتبة، لهذا كان عنوان كتابهم الثاني: داوود وسليمان : أركيولوجيون يحلّون لغز الأسطورة؟ أما كتابهم الأول حسب الترجمة الألمانية فهو: لا أبواق أمام أريحا الذي نالا بموجبه شهرة عالمية في مضمار مايسمى إصطلاحا "بحوث التوراة". وهذا هو الدافع لتكبد عناء قراءتهما والتقديم لما كتباه.
لقد تذكرت أثناء مطالعتي ما سبق وذكره إدوارد سعيد في "الثقافة والإمبرالية" عن الدول القاهرة التي لاتحكم بأساطيلها وقوتها فقط بل بلغتها التي تدقها في فم الشعوب المقهورة. تذكرت ذلك لأن الكاتبين مارسا سطوة لغوية كولونيالية رغم أنهما يعترفان ضمنيا بذهاب جهود البحث الأركيولوجي الإسرائيلي، وما بذلوه لنصف قرن أدراج الرياح، لكن المهم والحيوي أن نتعلم منهم فضيلة "المكر" كأداة مهمة لتحقيق الفوز على العقل الدوغمائي المتحجر الذي أبقى العرب جنودا أوفياء لتاريخ الأسطورة.وبرغم أن الكاتبين قالا : قضيّ الأمر الذي فيه تستفتيان.. لكنهما ساهما في تكرار صيغ ومفرادات وهمية تترك تأثيرها في وعي القارئ، فتراهما لايملان من تكرار عبارات إصطلاحية من قبيل: مدن إسرائيل القديمة "دان ومجيدو ولخيش وو ، الشعب اليهودي في يهوذا، وأرض التوراة وإسرائيل.. وعشرات المصطلحات الأخرى (النافقة)مع إعترافهما الضمني في أكثر مكان بأن تلك المدن كانت كنعانية، وأن الشعب اليهودي في ذلك الزمن الغابر( والأغبر) شعب كنعاني.
وبنفس الوقت يستطيع المرء أن يلتمس لهما العذر، إذا عرف طبيعة السطوة التي فرضتها مراكز دراسات " الكتاب المقدس" وهيمنتها على لغة البحث خلال القرنين المنصرمين.وأرجو ألاّ يُفهم التحفظ على المصطلحات، إستبطانا عدائيا عروبيا، فمع بالغ الإحتقار لجوهر العنصرية الصهيونية، لايسع المرء إلا تقديم الشكرلشخصيات يهودية فذة مهدت الطريق لعالم أكثر إنسانية ورحمة وعدالة، وأذكر بذلك اليهودي الألماني، الذي عاش مع أسرته حياة شديدة البؤس، أجبرته على دفن أولاده الثلاثة بسبب الإملاق. والمكوث في منزله خشية الصقيع، بعد أن رهن معاطفه الشتوية لسداد ديونه كما صرح لإنجلز، ولعله النبي الوحيد الذي قال : ما لقيصر للناس، ما للناس للناس، وهذه برأيي المتواضع يوتوبيا إنسانية عظيمة.
أخيرا وبرغم اللاءات والتحفظات السابقة، فإن ترجمة هذه الألفاظ كما هي أمر مهم وأمانة وضرورة تقتضيها هذه النصوص، حتى وإن أكره المرء على فتح أقواس للتعقيب وطرح التساؤل أو رفع الحجة إن وجدت. أو التهكم على هذه الدنيا الفانية، فكلّنا على آلة حدباء محمول.
نقش دان:
يتساءل الكتابان في إحدى الخلاصات المعنوّنة: هل كان داوود وسليمان حقيقة تاريخية [ جماعة الحد الأدني ونقش دان] وفي مايلي أهم المقتطفات التي وردت في النص :
هناك تيار من باحثي التوراة يعتقدون بوجود حد أدنى من التاريخية في الكتاب المقدس يُطلق عليهم Minimalisten ويرون أن قصص داوود وسليمان ومجمل سفر التثنية، قد كتب بدوافع لاهوتية، لذا فإن الأخبار عن القصة المبكرة غير أمينة، وهؤلاء ليسوا متفقين عن زمن صياغة تلك الأسفار. لكنهم متفقون على أن ذلك حدث بعد إنهيار مملكة يهوذا (على يد نبوخذ نصر في القرن السابع ق.م) فالباحث التوراتي الإنكليزي Philip Davies يرى في كتابه "بحث عن إسرائيل القديمة 1992"أن السفر التاريخي التثنوي (من تثنية) هو نتاج لصيرورة طويلة، ولم تتكون ملامحه النهائية قبل القرن الثاني ق.م، كخلق أدبي تاريخي، وبرأيه فإن الكتبة كانوا وكلاء أيديولوجيين في خدمة كهنوت المعبد الأوراشليمي.
باحثون آخرون تعقبوا الجذور الأيديولوجية لهذه النصوص في كهنة اليهودية وطبقة النبلاء التي عادت من المنفى البابلي، والتي كانت (حسب هذه الفرضية) اليد الطولى للقوة الإمبرالية آنذاك (الفارسية) وسعت لتثبيت مكانتها بين جمهور لم يغادرالأرض أثناء السبي، حيث قامت بذبح الزعامة المحلية، وكتبرير تاريخي فإن كتّاب مابعد السبي قاموا بجمع قصص وذكريات باهتة تم نسجها بمهارة، وجمعها من جذور تاريخية مختلفة وذلك لدعم مركزية أورشليم وهيكلها وطقوسها وكهنوتها وبالتالي فالرواية هي أسطورة قومية، وبهذا فإن تاريخية التوراة مفقودة بالكامل وهي عمل دعائي مؤثر للحقبة الفارسية الهلينية. والسؤال كيف يرى هؤلاء (جماعة الحد الأدني) تاريخ أرض ما قبل التوراة؟
الباحث التوراتي الأمريكي توماس تومسون ذهب في كتابه the Mythic past الذي صدر عام 2000م إلى أن نصوص التوراة قد دُوّنت في وقت متأخر جدا وهي بالكامل تاريخ خيالي لإسرائيل، وكذلك قدم تأويلا للقى الآثارية يقوم على إعادة بناء التصوّرات عن مجتمع فلسطين في عصر الحديد، فهو برأيه متعدد الإثنيات والهوية وبدون ديانة مستقلة وموزع على مراكز محلية [ القدس ـ السامرة ـ مجيدو ـ أخرى) ولكلّ أبطاله وآلهته. والتوراة قامت بتزوير الحقائق الحياتية بواسطة لاهوت قومي متماسك يقوم على فكرتي الخطيئة والخلاص. لهذا فإن أمثال تومسون يؤكدون على أن شخصيات كداوود وسليمان هي جزء من بناء ميثولوجيا دينية لكتاب اليهودية إبان الحقبة الفارسية الهلينية.
لكن مؤلفي الكتاب سرعان مايقدما إعتراضات تشير إلى إلتباسات منطقية وأركيولوجية إذ يرون أن الكتابة في الحقبة الفارسية الهلينية كانت أقل إزدهارا من القرن الثامن ق.م، وإذا إستطاع كتاب متأخرون وبدون مراجع قديمة، صياغة هذا العمل المؤثث بالتفاصيل عن عصر الحديد، فإن ذلك يصبح سؤالا إيمانيا. صحيح أن معلومات السفر التثنوي التاريخي سطحية وتحوي مبالغات تدفعنا للقول بأنها مركبات ميثولوجية، لكن تطابقها مع الحقائق التاريخية أمر محيّر ، فالمسح الأركيولوجي العمومي أمكنه إثبات كثير من الأسماء التوراتية للملكة الموحدة، تتناسب مع النموذج الإستيطاني للقرنين 8، 7 ق.م وهناك الكثير من الوثائق الآشورية تشهد لأحداث جرت بين القرنين 9 و 7 ق.م بعضها تم ذكره في التوراة نفسها. ثم يعود الكاتبان لطرح السؤال:هل تستطيع الأركيولوجيا تزويدنا بإثباتات عن تاريخية داوود وسليمان ؟
بينما كان النقاش مستعرا تم الكشف في شمال "إسراطين" (كي لايزعل العقيد) عن الموقع الأثري "تل دان" وهو ليس بعيدا من أحد روافد نهر الأردن، وهذا أعطى النقاش حول تاريخية داوود وسليمان منعطفا جديدا.
موقع "تل دان"
وهو الإسم التوراتي لموقع إكتشفه الأركيولوجي الإسرائيلي ابراهام بيران، وطابقه مع "دان" وهي مدينة (توراتية) شمالية في مملكة إسرائيل، كما أخرجت الحفريات أجزاء كبيرة من مدينة تعود للعصر البرونزي المتوسط والحديدي وبينها منصة هائلة يُظن أن الكهنة والملوك الإسرائيلين قد إستخدموها لتقديم القرابين ( ياعيني على كلمة: يُظن؟) ولم يكن متوقعا هناك في ذلك الموقع البعيدعن أورشليم، أن يُعثر على لُقية تقدم للجدل حول تاريخية داوود وسليمان وقودا جديدا، ففي 21 يوليو 1993م كانت جيلا كوك رئيسة المشروع تعمل على مساحة واسعة خارج الباب الخارجي للمدينة الإسرائيلية؟ هناك حيث الأحجار المتساقطة لجدران مبنى قديم، وبينما كانت كوك بعد الظهر تلقي نظرة على ذلك الجدار إكتشفت على السطح المستوي أحد النقوش القديمة، وهو عبارة عن جزء من نقش بازلتي أسود لنص آرامي يُخلّد إحدى الإنتصارات، وبعد عام تم العثور على إثنين من الكسور، ليكوّن المجموع 13 سطرا لنصب ملكي، وضع في مكان عام، ويعتقد أنه إهداء لملك آرام دمشق حزائيل، الذي كان في القرن9 ق.م لاعبا دوليا، ورد ذكره في سفر الملوك وفيما يلي ترجمة للنص المنقول إلى الإنكليزبة بواسطة جوزيف نافه وبيران (أخذته عن الألمانية):
1 ـ [.....] وأقفلو [....]
2 ـ أبي صعد [له وقتما] كان يحارب في [.....]
3 ـ وأبي اضجع ذهب إلى [آبائه ] والملك ال[س]
4 ـ رائيل إقتحم مبكرا أرض أبي [و] حدد جعلني ملكا
5ـ وحدد تقدم أمامي [و] أنا تحركت من [ال] السبعة [....]
6ـ آلا [ف من القتال ]
7ـ عربات وآلاف من الفرسان (أو الخيول)[وقتلت يو ] رام إبن [آحاب]
8ـ ملك إسرائيل و[ أنا] قتلت [آحاس] ياهو إبن [يورام المل]
9ـ ك من بيت داوود وجعلت [مدنهم خرائب وعملت]
10ـأرضهم [صحراء]
11ـوآخرون [....وياهو يـ ..]
12ـ حكم إس [رائيل ....و ..تقدمت من خلال]
13ـ حصارا على [.....]
هذا النقش تألف من كسور عديدة قام بيران ونافه بترميمها في أماكن كثيرة وهويعكس صورة فريدة للإضطرابات السياسية في القرن 9 ق.م وينقل وجهة نظر آرامية عن نزاع أقليمي بين إسرائيل ودمشق ويحكي عن هجمات تدميرية شنها حزائيل ضد أعدائه في الجنوب ( وهو حسب مصادر آشورية إبن لا أحد) وفي هذا النص الذي نقش عام 835 ق.م يزعم حزائيل أنه قتل ملك إسرائيل وحليفه الملك من "بيت داوود" وهذه هي المرة الأولى التي يُذكر فيها إسم داوود في مصادر غير توراتية، في أحداث تبتعد عنه حوالي 100 عام. والنقش كما هو محتمل يشير إلى موت يورام ملك إسرائيل وآهاسيا الملك من بيت داوود وهذا ما يعتبر صفعة لمن يزعم أن داوود شخصية شبحية؟ فالنقش يشهد بوجود سلالة ملكية تعود لداوود، لكن نص حزائيل لايقول شيئا عن داوود نفسه بل يذكره كمؤسس لسلالة، وأيضا يكشف النص عن تناقض توراتي، حيث أن سفر الملوك الثاني 9,14,27 يذكرأن يورام وآحاسيا قتلا في نفس الوقت ولكن ليس على يد حزائيل بل إثر إنقلاب عسكري قاده "يهو"؟! ومجددا نجد أنفسنا أمام علاقة بين حقائق تاريخية وميثولوجيا توراتية، تحمل ذكريات باهتة عن حدث تاريخي شديد الصدمة، تم طمسه وإخفاءه لكنه أيضا يعكس ذاكرة جمعية مستمرة، حتى ولو أدرج الحدث في سياق آخر.
ملاحظات:قبل الإستمرار في عرض الموضوع أتوقف عند النقاط التالية:
1: يمكن للمرء أن يبدي شكوكا جدية حول ظروف اللقية، فقصة السيدة كوك بعد الظهر، ثم الإنتظار عاما للعثور على أجزاء أخرى للنصب الآرامي، توقظ تصورات جنائية، فالتزوير محتمل في هذه الأمور
2 الترميمات الكثيرة للنص، وترقيعه وتأويله بملئ الفراغات ( يبدو جليا في إعتماد أقواس مفتوحة للعبارات الغائبة) يقلل من مصداقية ترجمة بيران ونافه.
3 تمّ تزمين النص بعام (835ق.م) بعد إفتراض نسبته إلى آرام دمشق "حزائيل" الغير مذكور علنا في النص، وهذا الأخير تم تحديد فترة حكمه بضوء وثائق أشورية دوّنت الصراع المرير بين دمشق وآشور في القرن التاسع ق.م ، لكن الكاتبين يتجاهلان أن تحديد الحقبة الآشورية نفسها وتزمين سلاسل ملوكها قد أنجز"جوهريا" بالإعتماد على نصوص التوراة نفسها، التي تبحث هي الأخرى عن دليل لإثبات تاريخيتها. أي أنهما يدوران في حلقة تأويلية مقفلة
4ـ ألم يلاحظ الباحثان وجود خلل منطقي فظيع! فنسبة الموقع الأثري إلى دان التوراتية لايخلو من العشوائية (لأنه يعتمد على نص توراتي نفترض عدم تاريخيته) ويتحدثان عن مدينة إسرائيلية؟ رغم ذكرهم وجود أجزاء من العصر البرونزي الوسيط حوالي 1700ق.م، و[يقصدون بذلك الحقبة الكنعانية للموقع]. وعليه فإن نسب طقوس القرابين المذكورة، لكهنة إسرائيلين مجازفة وطرحا عموميا فاقدا للمصداقية؟ أما السؤال الأهم والمخجل برأيي: فيتعلق بالنصب الآرامي نفسه الذي خلّد إنتصار آرام دمشق في القرن 9 ق.م حسب التاريخ الرسمي المتداول والذي يخبرنا أيضا أن نهاية مملكة إسرائيل( السامرة) على يد الآشوريين حصل في القرن 8 ق.م ؟ فكيف تكون المدينة إسرائيلية؟ ولما لاتكون آرامية؟ أفلا يحدد هذا النصب المبكرهوية المدينة؟ ولا أدري كيف يقيم الناس في مدينة "إسرائيلية" نصبا لتخليد إنتصارات "آرامية"؟ لكن علينا التريث لعلمنا أن اليهود تكلّموا الآرامية خلال العصر الهليني. وهاهم يتكلموها في القرن التاسع ق.م أيام حزائيل، والتوراة تخبرنا أن الآباء نطقوا "بشفة كنعان" ولا ندري حقا متى تكلموا العبرية القديمة ؟؟ وهل تختلف فعليا عن الكنعانية؟ أم أن الأمر مجرد عملية تعسفية لقسر وإكراه الأرض والأركيولوجيا واللغة والتاريخ لتنطق بما يوافق الهوى؟ لكن الكاتبين يعرفان أن نقش دان هزيل ويحتمل التلفيق رغم أنه أثلج صدر تجارالأسطورة. لهذا إنتقلا إلى القدس (اورشليم) العاصمة المفترضة للمملكة الموحدة لداوود وسليمان، وهناك سنرى ونسمع ما تنطق به الأرض
البحث في اورشليم (القدس)
كانت القدس دائما المكان الأهم للبحث الأركيولوجي،ولسنوات طويلة محط الحجاج والباحثين ودارسي الحضارات القديمة، والساعين وراء الأمجاد الداوودية والمباني العظيمة لسليمان، فالتوراة تصف كيف أن داوود إحتلها بهجوم بطولي عبر نفق أرضي [صموئيل الثاني 5و6ـ8 ] أوصله إلى مكان قصره على الحصن الجبلي وكيف نقل تابوت العهد إلى القدس، وكيف بنى سليمان قصرا ومعبدا فخما [ ملوك أول:6]. فالقدس كانت منصة الأحداث التي دارت عليها دراما التوراة.
ثم يذكر الكاتبان أن بعض العمران في القدس ربط بداوود بناء على قصص شعبي، وبغياب أي دليل تاريخي، فقبر داوود على جبل صهيون هو إنتاج القرون الوسطى، أما برج داوود الشهير القريب من باب يافا، والذي يعتبر رمزا يجسد سعي اليهود للعودة إلى القدس، فهو عبارة عن صومعة بنتها الجيوش العثمانية للسلطان سليمان العظيم. أما بقايا ميراث القدس المطمورة تحت المباني أو التي إختفت نهائيا، فكانت باعث ومحرك لباحثين عن تلك الحقبة المزدهرة لداوود وسليمان.
المدينة القديمة بآثارها وقببهاوأسواقها خضعت لهيمنة فضاء الهيكل، قبل أن يقوم هيرودوس في القرن الأول م بالبناء في نفس المكان حيث كان الهيكل اليهودي. وهذه المساحة تقع اليوم ضمن مقدسات المسلمين واليهود ؟وتضم قبة الصخرة والمسجد الأقصى والبقايا الضخمة للمعبد الهيروديسي، وتشكّل عائقا للبحث عن بقايا زمن داوود وسليمان.
بين عامي 1867 ـ 1870 م تعرض الضابط الإنكليزي شارلز فارن من فرقة الإستطلاع الذي كان قائدا لفريق البحث في فلسطين تعرض أثناء حفرياته في القدس بموازاة جدار الإسناد الهيروديسي الصلب في ساحة الهيكل، لخطر الموت مع عماله، لذا قام فارن بتفحص المنشآت القائمة بحثا عن طبقات المباني القديمة ورسم تفاصيلا لتحديدها، لكنه أدرك أن المباني اللاحقة حاصرت الطبقات القديمة، التي تحوي الأماكن المقدسة وربما دمرتها لهذا وصل البحث الأركيولوجي في جبل الهيكل إلى نقطة ميّتة.
حفريات مدينة داوود:
وهكذا فإن مسارات البحث الأركيولوجي في القدس قادت إلى طريق آخر، خارج الأسوار العثمانية للمدينة المزدحمة، وبالتحديد على مشط منحدر جنوبي الأسوار المحيطة بجبل الهيكل، بالقرب من ساحة المسجد الأقصى، حيث تمت مطابقة هذا المكان مع مدينة داوود التي تكرر ذكرها في السرد التوراتي، وبالطبع فعلى هذه التلّة وجدت طبقات إستيطانية تعود لعصر البرونز والحديد، لذا أنجز على هذا المنحدر حفريات أركيولوجية واسعة بدأها رايموند فايل في عام 1913وصولا إلى يغال شيلون بين عامي 1978ـ 1984
وبسبب الميل الشديد للمنحدر وقوة التهشيم والتعرية أصبح معظم مدينة داوود مندثرا وغير قابل لإعادة بناء تصوّره. وقد عُثر على قطع سيراميك وبقايا أخرى، تم ربطها بزمن داوود (قرن10ق.م) أما ما يُعتقد أنه شرفة الحصن الملكي الداوودي، وقنوات المياه ( التحت أرضية) التي ظنّ المرء أن داوود ورجاله سلكوها أثناء إقتحام المدينة، وكذلك القبور المزعومة لداوود وسليمان وملوك يهوذا، فكل هذه الظنون تستند على دائرة تأولية مغلقة، لأن الباحثين شخّصوا هذه الأماكن منذ البدء بإعتبارها مواقع توراتية، ثم أخذوا مرة ثانية هذا التطابق بإعتباره برهان أركيولوجي يثبت صحة وصدق التوصيف التوارتي ومثال على ذلك ما يُسمّى بالمُنشأ الصخري المدرّج الذي اكتشف عام 1920، وهو عبارة عن جدار هائل مؤلف من 58 طبقة متدرجة بشكل تراتبي من أحجار كلسية وبإرتفاع قدره 15 مترا وكان أساسا لمنشأ كبير في الجزء الشرقي من سفح تل مدينة داوود، كما أظهرت الحفريات الأخيرة لكينون وشيلون عن عدد من الشرفات الصخرية تبدو وكأنها لتدعيم وتوسيع لسان التل، وساد رأي بأن هذه المدرّجات الصخرية هي جزء من التحصينات اليبوسية التي إحتلها داوود، وهكذا إعتقد شيلون وكينون بأن ذلك جزء من النشاط العمراني للقرن 10ق.م وربما يكون هذا البناء اللغز عين الموقع الذي أسمته التوراة "ميلو" في سفر صموئيل 5,9 . وخارج هذا المنشأ الصخري عُثر على قطع سيراميك تعود للقرن 9و 8 ق.م . أما الإكتشاف الآخر فهو حفرة (فجوة)تذكرها التوراة بغموض في سفر صموئيل الثاني 5,6ـ8 . وفي عام 1867 إكتشف الإنكليزي فارن على السفح الشرقي لمدينة داوود قرب المدرجات الصخرية قنوات تحت أرضية وهي عبارة عن حفرتين متصلتين بنفق طوله خمسين مترا وبانحدار قدره ثلاثين مترا ، يصل بالنبع الوحيد الذي يغذي القدس بالمياه العذبة والذي يسمى ينبوع جيحون في وادي قدرون، وكعادة مدن الشرق فإن هذا النفق المنحوت يعتبرحاجة ماسة في فترات الحصار للوصول إلى مصدر المياه. وهكذا إعتقد باحثو التوراة أنه الممر الذي سلكه داوود لإحتلال المدينة، لكن تزمين النفق كان صعبا، فدراسات روني رايخ وإيلي شوكرون الأركيولوجية على السفح الشرقي لمدينة داوود تؤكد أن إنشاءه إمتد لقرون عديدة إبتداء من العصر البرونزي (بين 1550 ـ 2000 ق.م ) وتم توسيعه في القرن 8ق.م، هذا يعني أن قصة إقتحام داوود للقدس ربما تكون موروثا شعبيا، قصصيا تم تزيينه بمرور الزمن لتفسير وجود هذه الأنفاق في السفح الشرقي.
مقبرة ملوك بيت داوود:
اللقية الأخيرة المثيرة للجدل كانت عبارة عن عدد من الحجرات المنحوتة بالصخر والمهدمة جزئيا، والتي فسرت بأنها مقابر السلالة الداوودية. ذلك أن التوراة ذكرت تحديدا مدينة داوود، كمدفن للسلالة بعبارة واضحة [ إنضموا إلى آبائهم ودفنوا في مدينة داوود]
بداية القرن 20قام الفرنسي رايموند فايل بالتنقيب في الحافة الجنوبية لمدينة داوود ووجد عددا من المغارات المنحوتة في الصخر، وإعتبرها مقبرة سلالة داوود. هذا الإجتهاد أثار التساؤل بعد إكتشاف قبور الأسر المقدسية النبيلة لعصر الحديد، شرق مدينة داوود في وادي قيدرون والمسماة مقبرة سيلوا، والتي لاتشبه الحجرات أو المغارات المنحوتة التي ظن فايل أنها قبور السلالة الداوودية، وبهذا أصبحت هذه المغارات لغزا بدل أن تكون مفتاحا للحل.
أخيرا يختم الكاتبان ببضعة سطور فاصلة تقول:
إن أهم الآثار في اورشليم "داوود وسليمان" تقع أسفل التل حيث جبل الهيكل( الأقصى) وهذه الأثار تعرضت للتدمير بسبب أعمال هيرودوس الكبير في العصر الروماني (هكذا يتساءل الكاتبان) لكن عندما تكون اورشليم مدينة مزدهرة يجب أن يُعثر فيها على بعض الآثار، فكل أطراف المدن هي بالعادة مكب للنفايات، وفي كل مكان في مدن الشرق القديم عُثر على طبقات سميكة خارج الأسوار تحوي عظاما وقطعا فخارية وحطاما، في حين لم تؤد الحفريات الواسعة حول الأسوار إلا عن إستخراج بعض القطع الفخارية المتناثرة، التي تعود للقرن10ق.م.
ما عُثر عليه في القدس لايتسق مع كرونولوجيا التوراة، فهذا الموقع كان مسكونا بدون انقطاع منذ الألف الرابع ق.م، وأثبتت التحريات عن وجود مرحلتين للعمران الكثيف، وفي كليهما لاوجود لرابط مع عصر داوود وسليمان. ففي العصر البرونزي الوسيط (700سنة قبل الزمن المزعوم الذي عاش فيه داوود) تم بناء أسوار ضخمة في السفح الشرقي وأبراج وتحصينات. أما المرحلة الثانية من العمران فحدثت بعد عصر داوود بقرنين أو ثلاثة.حيث أنشئت بيوت وتحصينات توحي بإزدهار، ووجود آثار هذه التحصينات الكبيرة لكلا المرحلتين (في عصري البرونز والحديد) يدحض الإدعاء بأن أعمال هيرودوس قد دمرت آثار داوود وسليمان وأزالتها من الوجود.
وفي الصفحة 239 من الكتاب يبلغ الكاتبان مسك الختام بهذه الكلمات:
في الحقبة الزمنية بين القرن 16 و 8 ق.م لا يوجد في القدس إثباتات أركيولوجية تؤكد وجود مدينة مهمة أو عاصمة لمملكة. من وجهة نظر أركيولوجية فإن اورشليم كانت ( بين المرحلتين أعلاه) قرية صغيرة فقيرة نسبيا، وغير محصنة (بدون أسوار) تقع على منطقة جبلية مساحتها هكتار أو هكتارين، عاش سكانها على الجزء الشمالي للتل بالقرب من نبع جيحون.
خاتمة:
بعد هذه الترجمة المرهقة لمقاطع ذات صلة بالمسح الأركيولوجي، نسيت جوهر الكتاب وماذا يريد أصحابه ( شُغلّت بمتاع الدنيا وحطامها) فبعد أن يعرض الكاتبان (فنكلشتاين وسلبرمان) حقائق الأركيولوحيا ويكشفا أسطورية عصر داوود وسليمان، فإنهما يلقيا الضوء على نواة هذه الأسطورة أو الملحمة القصصية وعن كيفية تطورها وتشكُلها خلال مئات من السنوات، وتوظيفها لخدمة مصالح سياسية ودينية.
David und Salomo. Archäologen entschlüsseln einen Mythos
I. Finkelstein N.Silberman
هل توجد ترجمة للكتاب على الأنترنت يمكن مطالعنه كاملا من خلالها؟
ردحذفشكرا أستاذ نادر على هذه المقالة الرائعة
ردحذفكما أريد أن ألفت انتباهك على نشر الجزء الرابع المترجم من وثائقي الكتاب المقدس بدون حجاب
http://www.youtube.com/playlist?list=PLA14BC17F1D7DA209
تحياتي لك أستاذ نادر