في لحظة ما تهاجمني تأملات أشبه بعاصفة ذهنية تهزّ بيت المسلمات الذي أسكنه..فأحسّ برغبة مدمن لإقتراف الأدب أو ممارسة الحيرة المتافيزيقية.. فلغة السياسة والمقالات أصبحت مضجرة وعجفاء تمضغ ذات مفرداتها .. إحتيال ونصب وصفقات، تعقدها اللغة خارج بوابات المعنى
كم أنا مشتاق إليك فأنت الوحيد الذي يمنح طاقة من الفوضى والحلم لسبر هذا الجنون بيني وبين الأشياء، بين اللعاب ورغيف الخبز. بين الشهوة وإقترافها، فكلما أذهب إلى إلى بلاد العرب أشعر بإضطراب الأشياء وتشوّهها. هناك يتداخل فيّ الزمن وتترجرج الأشياء فتصبح الحياة سائلا لزجا لا أقدر على مسكه.. أقترب منك وألامس تخوم الروح المشبعة بالفوضى وأتذكر مقولتك الشهيرة:
الزمن هو المادة التي أنا مصنوع منها، الزمن هو نهر يجرفني لكنني أنا النهر، إنه نمر يفتك بي لكنني أنا النمر، هو نار تحرقني لكنني أنا النار. والعالم لسوء الحظ واقعي. وأنا لسوء الحظ بورخيس..
هناك خارج البوابة حيث الصفقات والمقالات والسياسة والمال، تتلعثم اللغة وتخفي دلالتها لتمرر الصفقة، عبر نظرات متواطئة بين ميكافيلي والأمير :> أمريكا إحتلت العراق، لأن العراق لم يقدر على إحتلال أمريكا؟؟ غزة محاصرة لأنها لا تقوى على حصار إسرائيل، أعضاء البرلمان العراقي وقعوا الإتفاقية تقديرا وإمتنانا لأمريكا التي أعادتهم من مقاهي التشرد في دمشق وطهران ولندن، بعد أن شنقت الخوف الذي كان يبلل ملابسهم الداخلية؟؟ لماذا لم تقبض أمريكا على بن لادن!! لأنه مختبئ!! ضحك الكثيرون على إجابة بوش هذه وصنفها البعض كواحدة من لمحاته الغبية، مع أنها إحدى تجلياته العبقرية؟ لماذا لأنها إجابة لاتخطر على بال طفل، لهذا يذكرني بوش بالتمثال الشهير لطفل غرنبلاس في بروكسل الذي يبول في الهواء الطلق (وليس في ملابسه الداخلية)<
هكذا ببساطة كنت مشتاقا لنص أدبي يسكرني، أو لقصة رومانسية مع سيدة ترتدي معطفا شتويا.. أنتظرها عبثا ولا تأتي، فأضع يدي في جيوبي بعد أن أترك الوردة تسلقي حيثما تشاء وأمضي...
ليس بعيدا جلسا على مقعد رخامي، كانا ينظران إلى نقطة ما على الأرض المرصوفة. عيناها كانتا تعكسان شيئا من الخجل والحزن وكأنها بكت لتوها. كانت ترتدي حجابا فوق بنطلون جينز، وكان يمد يده ليلامس يدها فتفر الأخرى مذعورة. لكنهما إستمرا في البحقلة على نفس النقطة.. لم أسمع همسهما فضجيج السيارات والبحر، كان يخرس همسات الناس .. فجأة تذكرت بورخيس ثانية وهو ينقل عن بيركلي في مقالته "دحض الزمن": لا وجود لأرائنا وإنفعالاتنا، فالأحاسيس والأفكار المرتسمة في الإدراك لايمكن أن توجد إلا في عقل يُدركها. كل الأجسام التي تشكل إطار العالم، ليس لها وجود جوهري بدون عقل، وكينونتها تتمثل في كونها مُدرَكة..
أمامهما وقف تمثال سعد زغلول ووراء ظهرهما كان البحر وسويعات النهار الذاهبة.. فجأة سمعت همسهما. الكلمات إنسابت على شفاههم، كانت تشي بلعبة الإغراء الماكرة.. كان يقول لها: أشتهي تقبيلك ( بالأحرى تجريد ملابسك، لنطفئ ماتبقى من حرائق مشتعلة).. لكن الحجاب والكتاب والسماء والمارة كانت لهم بالمرصاد، نهضا ثم إنزلقا في الزحام اللانهائي.
فكرت مليا في تلك اللحظة، وأدركت إستحالة تكرارها، فالزمن عند بيركلي هو تعاقب لأفكار داخل العقل. أجل لقد إلتهمت تلك اللحظة وشربتها حتى الثمالة مع إثنين غابا في الزحام.. فلا وجود لحياة إنسان كما يقول بورخيس ولا حتى لليلة واحدة من لياليه، فكل لحظة نحياها موجودة بدون جمعها مع سواها. فالكون هو المحصول الكلي لكافة الأشياء، التي لاتقل مثالية عن الخيول التي حلم بها شكسبير؟؟
لقد انكر بيركلي أن هناك موضوعا وراء أفكارنا، كما أنكر هيوم أن هناك ذاتا وراء إدراك تجليات الموضوع . الأول أنكر المادة والثاني أنكر الروح..
مشيت في شارع قذر تتوسطه سكة الترام: الليل أرخى سدوله، حاويات القمامة أفرغت جوفها على الأرصفة، وعيون القطط أخذت تلمع بإحمرار شيطاني، ومع ندرة المحال التجارية خفتت أنوار الشارع فإزداد وحشة.. على الجانب الأخر للشارع دوّت مكبرات الصوت فجأة " الله أكبر" والتأم عشرة أشخاص ويزيد لأداء صلاة الرصيف .. فالصلاة لم تعد تحددها الأوقات وكأنها تخضع لتوقيت بورخيس. " سمع الله لمن حمد" ربنا لك الحمد" دفعني الفضول وأخذت أتمهل وأراقب الجمع: الإمام وقف في الأمام (جملة عبقرية يعجز عنها دبليو بوش) وتقاطر الرجال خلفه على الرصيف "
في الحقيقة لم أعبأ بضجيج المكبرات فقد بدا لي المنظر شديد الكوميدية، وبأبعاد مشوّهة فالإمام وضع في فمه سواكا يشبه سيكار كوبي ، وبعد أن إكتمل نصاب المصلين، حرك سواكه ذات الشمال واليمين (بإيماءات تبدو مسرحية) ووضعه جانبا ورفع كلتا يديه وبدأ بالتكبير. لكن ما أثارني حقا هو الصلاة فوق رصيف مليئ بالقمامة والأوساخ ووسط رائحة حاويات الخضار المتعفنة وعوادم وسعال السيارات .. وما أدهشني حقا هو وجود جامع الشيخ مرسي أبو العباس على أمتار قليلة منهم؟؟ لابل جوامع أخرى ملاصقة وهي من أهم معالم المدينة. تعجبت أكثر وحاولت أن أسترق السمع لتمتماتهم كما يفعل الجن. إيه إنهم يطلبون من لدنه رحمة. أية رحمة سيقدمها لهم وسط هذه الزبالة ؟؟ هكذا قال بعضي لبعضي! لا إنهم تجمع حزبي يحتال على الله ليس إلا؟؟
إيه يا صديقي بورخيس تذكرت وأنا في القطار بين القاهرة والأقصر هكلبري الذي كان يطوف ضائعا فوق المسيسيبي مع مجرى المياه في ليلة باردة، وكيف كان يفتح عينيه بتكاسل فيرى عددا مبهما من النجوم وصفا من الأشجار ثم يعود ويغرق في نومه الخامل .. أجل عشت تلك اللحظات وأفرطت في الحلم والخمول وفاتني النزول في الأقصر .. سألت قيل لي أني في أسنا (مدينة في صعيد مصر) هناك وقبيل الفجر شاهدت الناس بالجلابيب تجلس القرفصاء حول باعة الفول والشاي، كل البلدة كانت تجلس القرفصاء كجيوش مهزومة!!
العالم فكرتي هكذا قال شوبنهاور .في كتابه الشهير (العالم كإرادة وفكرة) الذي أعاده الناشر إلى المخزن فأوروبا آنذاك كانت غارقة بالدماء والحروب النابوليونية، ولم تجد وقتا لتقرأه .. حينها قال بحزن وبأسف: كتابي هو المرآة ولا تظنن أن القرد سيرى وجهه فيه ملاكا.. أجل يا بورخيس مصر كانت مرآة تدحض الزمن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق