"لا إسم لي. أنا مثلُ نسيم الجبال العليل. لا ملجأ لي. أنا مثلُ المياه المتدفقة. لا كتب مقدسة لي، ولست في البخور المتصاعد من المذابح ولا في أناشيد الطقوس. لست مُحاصرا بالنظريات ولا مُفسَدا بالمعتقدات، ولا موثوقا بسلاسل الأديان، ولست في الأعلى ولست في الأسفل. أنا العاشق إذا عشقت. أنا حر وأغنيتي هي أغنية النهر المتدفق على هواه مناديا المحيطات المفتوحة: أنا الحياة" (كريشنامورتي)
أما الثقافة بمعنى Culture (مشتقة من عزق الأرض وتمهيدها للزراعة) فهي تمثل كل إضافة بشرية للطبيعة البكر الصماء، ومجازا تعني كل إبداعات الإنسان من فنون وفكر وعمران، وبهذا القياس يصبح اختيار عمرو خالد، والقرضاوي وتتويجهما على عرش (مستر) الثقافة، ضربة موجعة لكل حملة الأقلام وحتى حملة الأكياس (ودعوة مفتوجة لأدونيس ودرويش، وأركون، وهاشم صالح والعفيف الأخضر وجعيط وجلال العظم وعشرات المبدعين والمفكرين كي يمتلكوا شجاعة سقراط ويتجرعوا الكأس قبل أن يتم اختيار شعبان عبد الرحيم في السنة القادمة) لكن الجريدة التي اختارت كبار رجال الفكر والاقتصاد والإبداع من أمثال نعوم جومسكي وهنتنغتون وفوكوياما، قدمت للعرب بعض العزاء عندما اختارت ألمانيا بابا الفاتيكان محمود السادس عشر (محمود: ترجمة اللفظ اللاتيني بنديكت، وهو نفسه الفيلسوف اللاهوتي السابق رايتسنغر)، وغطت على زلتها بإضافة فيلسوفها الشهير هابرماس. بينما اختارت إسرائيل دنيال بارنباوم. قائد الاوركسترا، وناقد سياسة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وكذلك أستاذ الأدب أموس أوز عضو حركة [السلام الآن]. ودانيال كاهنمان. الحائز على جائزة نوبل في العلوم.وبعكس كل التأويلات أجد اختيار (القرضاوي، عمرو خالد) تعبيرا حقيقيا عن حالة الثقافة العربية، فكلّ المفكرين والمبدعين العرب سوية، أقل شهرة من نانسي عجرم، أو عمرو خالد ولا يطبعون من كتبهم أكثر من ألف نسخة (يوزعون نصفها على أصدقائهم) فيما يظل 300 مليون عربي (ناقصا ألف)متعلقين بأستار التلفزيون، طالبين النجاة من شرور القراءة والكتب الهدّامة! لهذا لم يُخفِ المناضل اليساري ريجيس دوبريه إعجابه بالإسرائيلي، الذي يقرأ تسعة كتب في العام مقابل كتاب واحد للأردني؟ ففي العرض القيّم لكتابه الجديد "كانديد في الأرض المقدسة" الذي قدمه هاشم صالح [3] يتساءل دوبريه بسخرية: ولكن ما حاجة العرب أو المسلمين إلى الكتب إذا كانوا يمتلكون الكتاب الأعظم؟ لماذا يطالعون ويعذبون أنفسهم وهم يمتلكون الحقيقة المطلقة بين دفتي كتاب واحد(إنتهى). ولو سمح لي دوبريه لوضحت له بعض ما خفيّ عنه، فالكتاب الأعظم (حسب وصفه) لم يمنع المسلمين في العصور الوسيطة من نهضة كتابية وترجمة الفلسفة والطب والجغرافيا اليونانية ونقل متونها للعربية..
لكن جوهر المشكلة التيولوجية بدأ مع الكلمة الأولى في القرآن (إقرأ) هناك بدأت أشكلة النص وطلسمته (حسب رأيي) فوضوح (إقرأ) لم يمنع من إختلاق أميّة محمد، ووصمه بجهل القراءة، لتبرير ألوهية النص، مع أن لفظ أميّ أتى من أمم كما يُفهم من سياق النص. وهذا التقاطع في التفسير حدث لاختلاط التصوّر اليهودي، وتسلُم موسى ألواحا مكتوبة للوصايا، تستوجب القراءة (بالمعنى الحسي)، مع تصور مسيحي يقوم على الوحي بواسطة ملائكة (جبريل أو الروح القدس)، لذا فإن انجيل البشيتا الأرامي يكرر جملة (قرا بشم مريا) وهي مساوية ل (إقرأ بإسم ربك) وتعني: أذكر إسم الرب، أو أقم صلاة الرب. ولا تعني القراءة أصلا؟ من هنا فإن الكلمة الأولى في النص القرآني، خضعت لتلاعب المفسر والمؤرخ الدوغمائي وأصبحت فاتحة للاحتيال على النص برمته، وساهم الترتيب اللازمني للسور في إلغاء تاريخيته، وبالتالي الحاجة الدائمة لجيوش من المفسّرين، واللغويين.لقد كانت للعرب (حضارة سمعية فقط) ويدلُّ على ذلك ندرة النقوش العربية الماقبل إسلامية، وإقتصرت الثقافة الكتابية إبان حقب التدوين على الدواوين السلطانية والأميرية، وطبقة رجال الدين ، بينما كان عموم الناس يجهلون الأبجدية، لذا لم يحتاج العرب لاختراع مطبعة غوتنبرغ. لأنهم ليسوا أمة قراءة بل أمة ذكر ورواية وسماع، وشعر وفي عصرنا الحالي استولى التلفزيون على كرسي الحكواتي القديم، واستطاع بمؤثراته البصرية أن يُحدث تشويشا على فانتازيا السمع ليخلق بذلك ثقافة سمعـبصرية تساعد على تهميش دور المخيّلة وملكة التفكير الحر، التي تحركها وتغذيها تقاليد القراءة.
وعودة للعفيف الأخضر فهو بلا شك أحد البصمات المهمة في مرحلة مضطربة للثقافة العربية، تميزت بازدهار ثم اندحار وتهاوي الأيديولوجيات، وفي السيرة الأدبية القصيرة التي رسمها حسونة المصباحي، نلمح ما يستحق سرده وتقديمه باقتضاب شديد:في وسط السعينيات، وقع حسونة على نسخة للبيان الشيوعي، كان قد ترجمها العفيف، ولما سأل عنه قيل له أنه جزائري (ربما) ويضيف:
إندهشت لوجود مثقف يمتلك مثل هذه اللغة الآسرة في بلد متفرنس حتى النخاع. ثم قرأ له "نصوص حول الدين" فمنحته انطباعا بأن مترجمها يتمتع بثقافة عالية، وذكاء حاد وتألق فكري نادر الوجود في عالمنا العربي، ومضت الأيام واكتشف أن العفيف تونسي، وأنه كان طالبا لامعا في الجامعة الزيتونية، وقادرا على مجادلة أكثر الشيوخ علما وتبحرا في اللغة والأدب، ثم يشير إلى إصداره مجلة أدبية بنصوص جريئة أغضبت رجال الدين المتزمتين، ويخبرنا بعدها عن مغادرته إلى الجزائر بُعيد استقلالها ثم مغادرته لها بعد (أن ماتت زهرة الثورة تحت الأحذية الثقلية) وهكذا يتيه العفيف في أوروبا بين باريس، براغ، فيينا، برلين إلى أن يقرر ترك القارة العجوز والعودة (إلى الشرق أرض النبوءات والأساطير، عازما على إشعال حرائق الثورة) وينضم إلى فلسطيني أحراش الأردن ثم يودعهم إلى أين؟ (كل العواصم العربية أصبحت قلاعا حصينة في قبضة مستبدين) إلى عدن، حيث تبنى إشتراكية بدون بروليتاريا، هناك يسمع نقاش الرفاق عن الثورة الزراعية، ليقول بعد صمت: (ما لكم متحمسون للثورة الزراعية كما لو أنكم تملكون أراضي أوكرانيا !!)في الصباح حمل حقيبته وسافر إلى بيروت، التي سحرته في البداية ببحرها وأجوائها الثقافية، حتى استقيظ ذات يوم وشعر بالاختناق وتبدت له بيروت (مدينة بشعة عجوز ملطخة بالمساحيق) وهكذا قفل راجعا إلى باريس، التي كانت تعيش حينها على أفكار ربيع 68 وسارتر وسيمون دي بوفوار وجان جينه وفوكو ومورياك. ويختم المصباحي أقصوصته بجولة قصيرة مع العفيف يقول: تحدثنا فيها عن أوضاع الجزائر سألني:هل قرأت رواية فارغاس ليوسا ((حرب نهاية العالم))؟؟ ففيها تشابه مع ما يقع في الجزائر، وشخصية "المرشد" الذي استعان باللصوص والمتسولين.. والبغايا، وتمرد على الجمهورية البرازيلية أواخر القرن 19 لا تختلف عن هؤلاء الآثمين الشاحبي الوجوه الذين يذبحون مثقفي الجزائر كما تذبح كباش الأضحى. إقرأ الرواية (إنتهى).
في نفس الفترة تقريبا قرأ كاتب السطور ما دوّنته لويزا حنون [3] المناضلة العمالية التروتسكية، المغروسة بثرى الجزائر كشجرة زيتون، والتي امتلكت من الجرأة الأدبية والأخلاقية لتعلن: أن شاحبي الوجوه من الذباحين والقتلة لم يكونوا إسلاميين فقط؟؟ حينها أدركت الفرق بينها وبين مثقف تتساقط أوراقه في خريف أوروبي، مسكون بهواجس الذات وتهويمات الاغتراب والمنفى، التي فضحها حلول لعنة الإنترنت، واستشراء الحروب الدونكيشوتية، فبدأنا نسمع عن تهديدات الإسلاميين للعفيف واتهامه بكتابة المجهول في حياة الرسول، وأصبح عالم الكتابة لا يتحدث عن الثقافة بل عن (الشهيد الحيّ كما تم وصفه) لكن بالعموم فإننا أمام سيرة متمردة، تنقلت من طالب زيتوني فقير، إلى محرض ماركسي، ومثقف أممي نظّر لثورة ثقافية، ضد (نمر من ورق)، إلى ليبرالي، عاصر تحوّل الإتحاد السوفيتي إلى ورق في أرشيف روسيا؟ إلى حكيم يبعث برسائل فولتيرية إلى بلاط الحكام العرب، وبرغم كل هذه الولادات التموزية المتكررة، كان العفيف أحد جراحي الكلمة المهرة.
لكن مقالاته من قبيل (إزاحة كابوس صدام تستحق حربا) تطرح سؤالا عن المسافة الحقيقية بين الأنسنة والتوحش، فهل يجرؤ مثقف أوروبي (أو حتى إسرائيلي) على طرح هذا الشعار الدموي (وهو يرى المسيرات المليونية المناهضة للحرب على العراق؟) وهل يستحق كابوس صدام قتل أكثر من مليون وتشريد بضعة ملايين وتدمير بلاد ونهبها؟ سؤال برسم الإجابة. أما أناشيده الأخرى مثل (حكومة كردستان منارة للأقليات) و(نداء إلى الخليجيات: حاكوا الشيخة موزة)! فهي نموذج لخطاب التسوّل الهابط، فعندما يطالب الخليجيات بإنعال وإطعام حفاة وجياع العرب، والإقتداء بالسيدة القطرية الأولى في دعم برامج تشغيل العاطلين في سوريا وتونس، يكون العفيف قد أهدر دم آدم سميث كما فعل مع ماركس سابقا، ورضي بقسمته كقرضاوي آخر يعيش في كنف ليبرالية بدوية، تضع البلاد في جيوب الأسر الحاكمة، وتترك العباد تعيش على موائد الرحمن واقتصاد لله يا محسنين، ورب يسر ولا تعسر.
وختاما: هل يحق للمثقف، أن يصرخ مثل كريشنامورتي: أنا الحياة؟ بلا إسم كنسيم الجبال، بلا ملجأ كالمياه المتدفقة، وبلا كتب مقدسة؟.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق