قبل أيام كتبت نصا عمّا جرى في الإسكندرية، تأخر نشره بسبب إزدحام الطرق بالمقالات، وكثرة المعزّين.. بدأت النص بالحديث عن حفلة رأس السنة في اوبرا فيينا، ورقصة الفالس ليوهان شتراوس وأجواء البهجة والموسيقى، وباقات الورد وأثواب الصبايا التي تطير كالفراشات، والأرستقراطية ونجوم الفن (والسياسة والمافيا). وصولا لمسك الختام ومقطوعة شتراوس (الأب) المسماة " مارش رادِتسكي" وتصفيق الجمهور وإسدال الستارة.
http://www.youtube.com/watch?v=0iDIr03pg0I&feature=related
وأثناء ذلك قرأت خبر إنفجار كنيسة القديسين في مدينة أحببتها وسئمتها بآن معا. أحببتها في لقائنا الأول عام 1988 ومذاك زرتها مرات وكرات وتمشيت على شاطئها، الذي حفل بذكريات العصور وأمجاد الفاتحين. فمن قلعة قيتباي (موضع المنارة الأشهر للأنتيكا) مرورا بمسجد المرسي "أبو العباس" ومقاهي المنشية، وصولا لقصر المنتزه، كنت أمشي وأدندن مع فيروز: شط إسكندرية يا شط الهوى؟ّ إلى أن فاض الكيل ومللتها؟! ربما لكثرة اللحى وذوات النقاب وإلحاح الباعة والمتسولين والوجوه المرهقة بأعباء الزمن.
بيد أن هذا الحادث المروّع لم يكن مفاجئا لمن يقرأ الأبجدية. فمصر التي أصيبت منذ رحيل الناصرية بشيخوخة مبكرة وإنسداد في شرايين فنونها وثقافتها، أضحت بيئة للعشوائية ولإرهاب ترتكبه أية فئة مغسولة الدماغ أو مدفوعة الأجر. وإن كان العثور على منفذيه عمل روتيني يسهل تعقب آثره وتفكيكك خيوطه، إلا أن العثور على مبرمجيه شأن آخر يلزمه مؤرخ وعالم سيكولوجيا وربما ويكيلكس؟ .
والقصة مسلسل قديم بدأ قبل أربعة عقود، منذ أخرج السادات الدين من قمقمه، لإزاحة تراث الناصرية واليسار، وإحلال كامب ديفيد وسياسة الإنفتاح وتحويل مصر إلى عبّارة هالكة تنقل المهاجرين والعمالة المُهانة أو إلى مزبلة للفقراء وجنّة للنهب والقطط السمان. آنذاك بدأ الشعراوي وأمثاله ينتهكون الخطوط الفاصلة بين الدين والدولة، وبدأ البترودولار وغسل الأدمغة، ومن نجا من رذاذ الدعاة، ذهب بقدميه واغتسل بدار الوهابية .
هكذا مرت سنون تلاطمت فيها الأحداث لتفقد الدولة المصرية كينونتها كضابط للمواطنة والمساواة، وأصبح الشارع يطرب جذلا لأصوات الدعاة، مسحورا بألاعيب الثعبان الأقرع. وغدا الحاكم أسير إملاءات الشارع، فالجميع سبب وعلّة ونتيجة ومعلول. الحاكم والأزهر والإخوان وكنيسة شنودا هم ملوك، يملكون ولا يحكمون، أما الشعب فتحكمه العشواء ولقمة العيش المُرّة والفساد والفنون الهابطة وهزات الضمير التي تعصف بالمنطقة.
كل ما في الأمر أن الدولة نسيت دورها في مسك دفة الثقافة والتربية، وتركتها لمن هبّ ودبّ، والنتيجة أن سقط الجميع تحت رهاب ديني يتحكم في أذواق الناس وأحلامهم وملابسهم ويفصّل مقاييس الجمال والقيم.
في مجتمع كهذا كان لابد أن تسود التقية والنفاق والمجاملة. وبسبب إشتباك مصالح الناس، ارتدى القمع ديناميات ذاتية، فالكلّ يراقب الكلّ، والكلّ يرسم وشم التقوى على جبينه. والكلّ يكذب ويتجمل ويعصب عيونه عن رؤية الإرهاب الحقيقي، الذي يُكشّر عن أنيابه في الفقر المتقع. فعندما يبيت آلاف الأطفال من مشردي الأرصفة تحت علب الكارتون الفارغة، وعندما تُمتهن الطفولة والأمومة وتُقذف على أرصفة الحاجة والذلّ، وعندما تقتل الجريمة أطفالا دون العاشرة لتبيع أعضائهم (بثلاثمائة دولار فقط) يصبح تفجير كنيسة فرقعة في الصمت.
إن وأد الفتنة يتطلب رفع صوت المواطنة والعلمنة والإنصهار فيها،. فبعد ذهاب حقبة الشرعية الملكية والثورية الناصرية. أصبح إستمرار حكم الأسر والعائلات والزبانية معولا لنقضّ أساس الدولة، وتمزيق صورتها وإحلال السلطة الغاشمة مكانها. وترسيخ وصاية الأزهر والكنيسة، ما أتاح للأصوات الناعقة صبّ الزيت على النار، وإشاعة لغة التأفف والتذمر بدل النقد العميق والمواجهة. لقد أصبح عض البردعة سياسة للتمويه والتعمية، واختُصرت الحياة في إثارة الأحقاد والغرائز ودعوات الإستعلاء والتكبّر، وتصفية حسابات دوغمائية مع أشباح التاريخ. إن جوهر المشكلة لا يمت لتاريخ أثري، فمسؤولية عمرو بن العاص لا تزيد أو تقل عن مسؤولية القديسين الذين نُذرت الكنيسة لهم، والتاريخ ليس أكثر من عبء تواطأت الأجيال في نقله.
..
وهكذا كاد الموضوع ينتهي، بالدعوة لفسحة الأمل مكان أضيق العيش. أمل بأن تصحو مصر من صحوتها الدينية. لكن رسالة من أحد مصريي المهجر. أيقظت الموضوع من سباته وألحّت بنشره .. رسالة كتبها شخص يعيش في دبي بلغة وسطى وعاميّة مصرية، وإستهلها بوصف حفلة رأس السنة في ساحات برج خليفة، وإجتماع قرابة مليون شخص من عشرات الجنسيات والأديان في مهرجان من الوئام والفرح إحتفاءا بقدوم العام الجديد.. وبعد حديثه عن الإنفجار وفزعه مما جرى وسخطه وتضامنه مع الأقباط والضحايا. استوقفني هذا المقطع المثير:
"مش حتكلم كتير عشان أنا مكتئب من اللي حصل لأهلي المصريين. أيوه أهلي. من غير نفاق المسيحيين أهلي بحبهم زي المسلمين بظبط ومستعد أعمل أى حاجة عشانهم خلاص الكلام فقد معناه والأحاسيس ذبلت حتى لو كانت حقيقية جداً بس معلش اللي حصل برده يخلي الواحد يكفر !
الدولة اللي سمحت بقتل المسيحيين و الكام مسلم حتسمح بقتلي أنا وبقتلك انت. احنا بالنسبة لهم كلنا سواء. شوية شعب مقهور لا يملك من ارادته شىء. على رأي كاتب فى الدستور: شعب بينسى بسرعة وطيب
مش عايزين نسمع كلمة أيادي خفية وناس من بره واسرائيل ورأفت الهجان والكلام ده يا ريس. اللي عنده كلمة مفيدة يقولها واللي حيفتي ويبقى سطحي نقدر نمارس عليه ديكتاتورية مؤقتة زي قانون الطوارىء (بس يكون بينتهي) ونقوله يصمت عشان الناس كلها بتغلي.
وبقول للمسلمين والمسيحيين: فلتذهب وفاء قستنطين إلى الجحيم هي وكاميليا شحاتة مسلمين كانوا أو مسيحيين.
القنوات الدينية التكفيرية لازم تتقفل. القس بطرس وكل اللي زيه لازم الانتربول يعتقلهم. الشباب التكفيري اللى ع النت لازم يتحاكموا. مصر لازم يكون فيها قانون للوحدة الوطنية يجرم أي فعل فيه مساس بمسلم أو مسيحي أو يهودي أو مجوسي أو واحد بيعبد الطوبة بناء على دينه! بس قبل ده مصر لازم يكون فيها دولة زي بقية بلاد العالم" (انتهى).
مدونة جميلة جدا و مواضيع اجميل
ردحذفشكرا جزيلا لكم