بداية أودّ التمييز بين الثقافة Culture كونها إضافة بشرية للطبيعة الصمّاء، (وهي جوهر العمران وتشمل كلّ إبداعات الإنسان وإضافاته في حقول المعرفة والفنّ والأدب)..وبين الثقافة بمعناها العربي المشتقّ من ثقيف (وثقّّف السيف واللسان وصقل المهارة) وأودّ التمييز أيضا بين الكتابة والثقافة، فالأولى لا تشترط الثانية، وهذا ينطبق على كتّاب العرائض بباب المحاكم وكلّ من لا يقدّم إضافة معرفية أو إبداعا أدبيا وفنيا، بمن فيهم كاتب السطور، الذي يقرّ أيضا بعدم أهليته ناهيك عن عدم صلاحيته للرقص الشرقي وهزّ الخصر على طاولات الزبائن. لكنّه يعترف بأنّه قارئ متوسط يحترم المكتوب (باستثناء رسائل البوليس وكتابات الجهلة وذلك لأسباب تتعلق بجماليات التلقي والتذوق)، ويمارس الكتابة لدوافع شرحتها رجاء بن سلامة في أطروحتها "العشق والكتابة".
وبالمرة أودّ أن أميّز بين الكتابة والشهرة، فالأولى تعود إلى حصيل ثقافي ومعرفي تنحته أقلام رهيفة وذكية تجترح المعنى وتؤثر في وجدان وعقل القارئ..بغضّ النظر عن ميولها السياسية والفكرية. والثانية تشمل بعض من ذاع صيته بسبب سطوة الميديا والفضائيات، أو بسبب الملكات الصوتية واللسانية والحذلقة والفهلوة.. ففي عصر الميديا وحين يبلغ عدد مشاهدي الجزيرة خمسين مليونا في اليوم، وتتراوح عدد نسخ الكتاب المطبوع بضعة مئات أو آلاف، تتحوّل الشهرة على الأغلب إلى خصم للثقافة. وقد استفحلت المشكلة أكثر بسبب حاجة تلك الفضائيات إلى مواهب شابّة وأصوات مطربة، مما دفعها للاستعانة بخزّان المهجر وأعالي البحار. وقد ساهم فيصل القاسم وغيره من حيث لا ندري بصناعة كوكبة من المشاهير، لكنّ الحقيقة أنّ المهجر لم يقدّم لنا نخبة تنويرية أدبية راقية كالتي عرفناها نهاية القرن19 ومطلع القرن20، ولم يرفدنا بجبران خليل آخر ولا بميخائيل نعيمة أو القروي أو وجوه معاصرة مثل أمين معلوف ومحمد أركون. بل رفدنا ببعض خيّاطي المقالات وصبية دانييل بايبس الذين فرضوا كثيرا من الصخب والردح والضوضاء وقليلا من الثقافة. لكن بعضهم والحق يقال قد بلغ شأوا ونال شهرة.. تذكّرني شخصيا بسفسطائيّ يونانيّ ذاعت شهرته بسبب ممارسته للعادة السرية في ساحات أثينا أمام الجمهور (وعلى الهواء مباشرة).
وإذا تصفحنا كتابة الميديا الحديثة والإنترنت سنجد أنّ المشكلة تتفاقم وتزداد سوءا، مع ازدياد حدّة السجال والصخب، وغياب نماذج ثقافية كبرى، وحركة رواد لصناعة خطاب مؤثر .. وربما يكون ممارسو العادة السرية في ساحات الإنترنت هم الأكثر صخبا وسفسطائية خصوصا في ميدان النقد الديني.. حيث ينحدر الخطاب في أغلب الأحيان إلى مستوى من الإسفاف والجهل المركب.
"طبق سلطاني" في النقد الديني
بعد غياب طويل قرأت نصا يكرّر نفس النغمة المعهودة! إيقاع مملّ يشبه قرع الطبول في السودان .. لا جديد.. نفس الطبق الفاقد للدسم ونفس القصة المكررة التي تريد إقناعنا بأنّ زواج محمد من (الطفلة) عائشة مصدر الشرور والآثام، وأنّ زواجه من زينب أو صفية اليهودية هو سبب عاهات المسلمين وتخلّفهم؟ وأنّ غزوات حدثت في تاريخ ضبابي أسطوري قبل 14 قرنا هي السبب وراء همجية المسلمين وتطرفهم (وربما حصارهم لسان فراسيسكو، وزحفهم لتدمير القارات ونهبها وإسترقاقها) تقول الكاتبة حرفيا:
ما قلته في الاجتماع الذي حضره الحاخام قلته من على منبر الجزيرة مرارا وتكرارا وفي كل مقابلة أو مقالة لي، وسأظلّ أقوله وأكرّره مادمت حيّة! قلت باختصار: "كلّ إنسان يقرأ السيرة النبوية لمحمد ويؤمن بها لا يمكن أن يخرج إلى الحياة إنسانا سليما عقليا ونفسيّا" (انتهى)
في الحقيقة، واختصارا للموضوع، أشعر بفقر هذا الخطاب لأنه يجهل ماهية الدين تماما..
فالإسلام وغيره من الأديان ليس سيرة هذا النبي أو ذاك فقط ولا يقوم على عدد من الآيات. فهذا الجزء البسيط منه وغالبية الناس لم تقرأ السير وكتب الفقه، فالقراءة كانت تاريخيا تخص نخبة من الإكليروس ودواوين السلاطين.. الدين بالأساس هو مكوّن ثقافي وصيرورة أنتجته أجيال من المقدّسين وهو وجود داخل وعاء لغوي (نظام يهيمن على التصوّرات العقلية).. أي أنه ليس منظومة ميتافيزيقيا وعقيدة وحسب، بل مجموعة من الطقوس والعادات وأنظمة القيمة التي ينشأ عليها الأفراد وتتحكم بعواطفهم ووجودهم. عليه فإن وجود أو غياب رموزه لا يغير شيئا كثيرا.. لقد بات من شبه المؤكد أن كثيرا من الآباء البطاركة وأنبياء التوراة هم شخصيات أدبية (ميتاـ تاريخية) أنتجتها الأسطورة والمخيال القصصي..شخصيات لم تعش قط إلا في بطون المدوّنات.. هذه الأمور أصبحت من مسلّمات البحث الحديث، تماما كنظرية داروين في النشوء والارتقاء.. بما فيها قصّة الخروج من مصر بقيادة موسى، أو اقتحام كنعان أو المملكة الموحدة لداوود وسليمان.
لكنّ ذلك لا يعني نهاية اليهودية، لأنّها انتماء لهوية جمعية يخضع لها العلماني بن غوريون (مؤسس إسرائيل) كما المتديّن الذي يهزّ وسطه عند حائط المبكى؟؟ لقد بات من شبه المؤكّد أنّ مدينة الناصرة (التي يُنسب لها المسيح) قد بُنيت زمن الحروب الصليبية ولم تكن موجودة قطّ في العصر الذي يروي قصته.. لكن ذلك لم يُغلق الكنائس ويُبطل إيمان أكثر من مليار مسيحي في العالم!! وحتى لو أثبتنا افتراضا وباليقين المطلق أنّ معركة كربلاء لم تحدث إلا في المخيّلة.. هل يمكن أن ينتهي التشيّع وعاشوراء وطقوسها؟ أبدا .. فمحاولة النيل من محمد عبث لا يقلّ سذاجة عن إلغاء شهر آب (أغسطس) من الروزنامة لتخفيف درجة حرارة الصيف.. لكن أين تكمن المشكلة، وحتى لو افترضنا أنّ محمدا تزوّج عائشة وهي بنت تسع، وحتى لو خاض غمار الغزوات؟ هل يمكن أن تهتزّ منزلته بعيون أتباعه ومشايعيه؟ عبث !! لو كان ذلك ممكنا لاهتزّت المسيحية واليهودية ولخجل الحاخام (محدّث الكاتبة) من نفسه وأخبرها أنّ:
الأب الأوّل إبراهيم سلّم زوجته سارة للوطء مرتين، بعد أن ادّعى أنها أخته، كما ورد في الكتاب المقدس (عندما حلّ ضيفا على أبيمالك، والفرعون) فأكرم وكوفئ وحصد من ورائها (أو أمامها) غنما وإبلا وحميرا؟ أي أنه لعب دور القوّاد على زوجته.. هل أثّر ذلك على التوراة وقلل من قدسيتها وقيمتها الأدبية والتاريخية وهل تحوّل قراؤها إلى قوّادين؟
ماذا نفعل مع موسى (صاحب ألواح الشريعة) الذي بدأ نجوميته المقدسة قاتلا (قتل مصريا ودفنه في الرمال وهرب إلى مديان) ماذا يفعل اليهودي مع داوود الذي تزوّج امرأة اوريا الحثي بعد أن أرسله إلى الحرب وأطعمه للموت!! وماذا عن مئات الزوجات والسبايا اللائي حرثهن داوود وسليمان أنّى اشتهيا؟ ماذا يفعل اليهودي والمسيحي إزاء يهوذا نفسه وهو السبط الذي ينتمي له داوود والمسيح. فالتوراة تخبرنا أنّ يهوذا ضاجع زوجة ابنه (كنته) تامار وأنجب منها سلالته المباركة .. ماذا وماذا عن مئات القصص الأخرى ..هل قللت من قدسية هؤلاء قيد أنملة؟ أليست التوراة هي العهد القديم للكتاب المقدس الذي يملأ قلوب المؤمنين بالحبور والطمأنينة ويوضع قرب وسادة النوم، ويتبارك به المرضى والأصحّاء وأنقياء القلوب؟
بعد سبعين سنة من الحكم الشيوعي في روسيا وإقصاء الدين قرعت أجراس الكنائس ثانية، ليس لأنّ الروس يؤمنون بالكتاب المقدس بل لأنّ الأرثودكسية جزء من ثقافة روسيا وهويتها؟ في أمريكا يوجد سبعون مليونا من أتباع الكنائس الأصولية الذين يحاربون تدريس نظرية داروين لأنهم يؤمنون حرفيا بقصة الخلق التوراتي للعالم في سبعة أيام .. وهؤلاء يدعمون إسرائيل لتهيئة الأرض للمسيح الثاني وإقامة مملكة الرب بدء من شوارع أورشليم التي ستغرق بالدماء.. هذا يحدث في أمريكا بعد قرنين من العلمنة وانتصار العلوم والفلسفات الوضعية!! فما بالكم ببلادنا التي مازالت تعيش في القرون الوسطى؟
ثم لما كل هذه النرجسية؟ ولماذا يعتقد البعض أن خلاصنا من ميراث محمد سيدخلنا فورا عصر الفضاء وتقنية علم الجينات؟؟ هل المسلمون أفضل من أثيوبيا والكونغو وأوغندا ورواندا وهاييتي وغيرها من دول المسيحية.
في عدة أيام ذبح الروانديون المسيحيون مليون رواندي آخر بسكاكين الأدغال رغم ما يجمعهم من خدّ أيمن وأيسر؟؟ الوحشية لا دين لها؟ هل العرب أفضل من هؤلاء؟؟ أليسوا ضمن نفس الدائرة الثقافية والحضارية؟؟ لماذا يتصوّر المسيحي العربي القبطي بأنه ليس عربيا وهو أقرب إلى السويسري؟ أليس حريا به أن يقارن نفسه بمحيطه ويقارن كنيسته بكنيسة أكسوم في أثيوبيا؟
وعودة إلى ما بدأت به، فالكتابة "اللغة" تعكس الفضاء العقلي لناطقها، لأنها صنو العقل وأداته ووعاؤه، ولا وجود لأحدهما بدون الآخر.. ومن البديهي أن تتمتّع لغة كلّ شعب وأمة بموروث لغوي (شعر حكمة أدب ميثولوجيا) تحدّد ملامح هويته وشخصيته التاريخية ومنظومة القيم لديه ورؤيته للكون والعالم. لكنّ إحدى أهم المشاكل التي تواجه الكتابة العربية هي غربتها عن العقل، الذي يبني علاقات (منطقه وعواطفه ووجدانه) بواسطة اللغة العامية الدارجة .. في وقت يُكره ويُقسر كتابيا على استخدام لغة راقية فصحى ذات طاقة بلاغية تساعد على تمويه الدلالات (السيمانتية) ومكيجة الواقع أو طمسه بإسباغ محتوى جديد على الألفاظ المستخدمة (الترمينوس)، تحيده عن مقاصده وتؤدي إلى تعسير المعرفة بدل تيسيرها. لذا أظن أن عدم المقدرة على تدجين العاميّات (التي تحتضن المشاعر العميقة وروح الشعب ولغة النكتة) في إطار لغة ذات قواعد منمذجة، يزيد من صعوبة التواصل الحضاري المعرفي والتعليم السوي التلقائي، ويحافظ على حالة من المسخ والتشويه وعدم القدرة على التعبير. وهذا مرض يعاني منه أساسا الأدب والرواية والمسرح..وكذلك لغة الفكر الحديث والعلوم، ليس لغياب المصطلح الدقيق وحسب، بل لفقدان التربة المعرفية لاستنبات ذلك المصطلح.
لهذا ولأسباب أخرى فإنّ معاناة الكتابة العربية (كتابة وقراءة) لا يمكن فهمها إلا في سياق القحط الحضاري والمعرفي ولا يمكن ردّها للكتاب أو القراء. ويتلخص هذا القحط بانحباس أطر المعرفة داخل وعاء لغوي ديني يحتكر الخطاب واللغة لاحتكاره تمثيل الهوية والذات الجمعية..
أخيرا: إن نقد الدين لا يؤتي ثماره إلا بأدوات المعرفة، وعندما تتبنّى النخب الحاكمة والمثقفة فكرة العلمنة قلبا وقالبا. وهذا لن يتحقق بوجود نخب من اللصوص الفاسدين. لأنّ العملية تتطلب تهيئة الأرضية اللازمة وأنظمة العمل والاقتصاد والقوانين والتعليم. فتغيير المجتمعات عمل مضنٍ وصيرورة بطيئة. وقد بدأ العالم العربي فعليا هذا المشروع إبان عصر النهضة مطلع القرن 20، إذ تبنته النخب آنذاك بحمية وشجاعة وإيثار، وكادت العلمنة والحداثة أن تصبح طريقا للأجيال.. لولا (وهذه قصة طويلة)..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق