لم يكن القديس أوغسطين أحد آباء الكنيسة ونقطة تحول في تاريخها فحسب، بل وعلامةً فارقةً في فلسفة العصور الوسطى أيضاً حيث يمثِّل نقطة الالتقاء بين الثقافة الإغريقية-اللاتينية والثقافة المسيحية. لا شكّ أنّ كتاب الاعترافات لأوريل1 أوغسطين هو من أمتع ما كتب حيث يُعتبِر أوّل سيرة ذاتية غربيّة والذي لا يزال يطبع الإنتاج الفلسفيّ والأدبيّ حتّى أيّامنا هذه ويُثير الكثير من المراجعات والتحليلات ويلهم الأُدباء والفلاسفة بأفكار جديدة. لقد أثار هذا الكتاب اهتمام فيلسوفين مُعاصرين الأوّل هو جاك دريدا الذي ألّف كتاباً كاملاً بوحي من اعترافات القديس أوغسطين أسماه: اعترافات والثاني هو فتجنشتاين الذي تصدَّرت اعترافات القديس أوغسطين كتابه: أبحاثٌ فلسفية الذي صدر بعد موته عام 1953. يتألّف كتاب القديس أوغسطين، الذي حرَّره في مرحلةٍ مبكرة نسبياً من حياته بين عامي 397-398 بعد الميلاد، من ثلاثة عشر جزءًا يكشف لنا فيها عن الجوانب المظلمة من حياته وعن خطاياه في سراديب اللذّة والمتعة التي عاشها مع خليلته (فلوريا إميليا) التي قضّى معها حوالي خمس عشرة سنة وأنجب منها طفلاً دون زواج. كما يحدّثنا أيضاً عن شبق الغرائز الشيطانية التي كان إذا ما تغلّب عليها في النهار، فإنّها كانت تزوره في الليل كعاشقةٍ سرّية لتفترسه مستسلماً. لا شكّ أنّ أوغسطين لم يكشف لنا عوالمه الحميمة تلك قصد التفاخر بفحولته ومغامراته، وإنّما بقصد التطهّر من خطاياه كما يتخلّص المسيحيّ من أدرانه عندما يعترف في الكنيسة وليُذكِّرنا كذلك بآثام الحواسّ ونبل الترفّع عنها. لم يكن أوغسطين فخوراً بما فعل بل نادماً علي ما اعتبره آثاماً مُهلِكة وغوايةً من الشيطان.
لكنّ السؤال المطروح هو: إذا كان أوغسطين قد قال لنا الحقيقة في اعترافاته، فهل قال كلّ الحقيقة فعلاً؟ أم أنّ نصّه يحجب بقدر ما يكشف ويُخفي بقدر ما يُعلن ويُضلّل بقدر ما يهدي ويُنكر بقدر ما يعترف؟ تُقدِّم لنا سيرة أوغسطين وتاريخه رجُلاً صالحاً مليئاً بالخير قويَّ الإرادة تغلَّب على شهواته الدنيئة ليتفرّغ لعبادة ربّه وتدعيم الكنيسة بوصفها مدينة الله وقد ظلّت هذه الصورة النمطية عن أوغسطين شبه ثابتة إلى أن وضع التاريخ بين أيدينا رسالةً طويلةً بعثتها له فلوريا إميليا عشيقته السابقة وأمّ ابنه التي سلبها إياه لتعرّي لنا جوانب ظلَّت مجهولة في حياة القديس أوغسطين. لا تكشف هذه الرسالة عن جوانب مسكوت عنها في اعترافات أوغسطين فحسب، ولكنها تُبرِز لنا امرأةً عاشقةً تُصغي إلى قلبها وجسدها أكثر مما تأبه لثواب الله وعقابه وتؤكِّد على حرية الإنسان في مقابل عبوديته للآلهة. إنّه صوتُ امرأةٍ حُرَّة عاشقة ومخدوعة، تخلّى عنها ذلك الفيلسوف الكبير والقدّيس المُبجَّل لصالح الأفكار والنظريات المجرَّدة والتأمّلات اللاهوتية الباردة حيث قالت لأوغسطين الذي أبعده عنها الله والفلسفة وأمه مونيك: "ليست غريمتي امرأة أُخرى أستطيع أن أراها، بل هي مفاهيمٌ فلسفية […] إنها غريمة كلّ النساء وملاك الموت الذي يقتل الحُبّ" "إذا كانت مونيك عِندك في مقام الله، فإنّ الله يأخذ مكانها عندك في الوقت الحاضر. وإذا عرفت مونيك كيف تتدخّل بيننا، فإنّ إله الناصريين هو مَن يتعهدّ بذلك الآن" (ص 107)
لهذه الرسالة المُكتشفة حديثاً والموجهة إلى القديس أوغسطين قصةٌ طريفة جدَّاً فقد عَثَرَ عليها الفيلسوف والروائي النرويجي الأشهر جوستين غاردر بالصدفة المحضة عام 1995 عندما كان مُستضافاً في معرض الكتاب في بوينس آيرُس في الأرجنتين حيث كان المخطوط المكتوب باللغة اللاتينية يئن في أحد الدكاكين المتطرّفة تحت ركام مجموعةٍ كبيرةٍ من الأوراق وقد أخذ غاردر على عاتقه مهمّة ترجمته والتحقق من مصدره.
لنترك للفاتيكان ولخبراء المخطوطات والمخابر البتّ في صحّة الرسالة، إلا أنّه من المؤكَّد أنّ كلّ من يقرأ المخطوط سيجد فيه بما لا يقبل الجدل صوت امرأةٍ عاشقةٍ وعتب مُحبٍّ وفيّ وصراخ حرّيةٍ تأبى الظُلم وتُذَكِّر بالأرضيّ قبل السماويّ وبالإنسان قبل الله. سأعمل فيما يلي على اختيار بعض المقاطع من رسالة فلوريا التي قام غاردر بنشرها عام 1996 وفيما يلي مقاطع من هذه الرسالة الطويلة جداً2:
"أكتب لك لأنّ قِسَّ قرطاج دفعني لقراءة اعترافاتك. كان يظنّ أنّ قراءة كتبكَ يمكن أن تبعث التقوى في امرأةٍ مثلي. يمكن القول أنني أُمثِّل منذ عدَّة سنوات جُزءًا من جماعة المُستمعين، ولكنّني لن أتعمّد يا أوريل، ليس لأنّ الناصريين أو الأناجيل الأربعة يمنعونني من ذلك، ولكن لأنني لا أريد التعميد" (ص19-21) "لماذا أضعتَ نفسكَ بين اللاهوتيين؟ كم هي تافهةٌ مهنتهم تلك!" (ص 85) "نحن بشر يا أوريل، عشْ أولّاً ثم تفلسفْ مِن بعد!". "كيف يمكن لنا أن ننسى ذلك الشتاء يا أوريل حين كانت lينوس حليفةً لنا حيث كنا نلهو بحرية بين ذراعيها؟ لقد قارنتَ نفسكَ بشجرةٍ جفَّتْ عروقها وبفضل المطر الذي تمّ انتظاره طويلاً نهضت في النهاية بعد صيفٍ طويل قهره الجفاف" (ص 213-215)"هل تتذكَّر كيف كنتَ تداعب جسدي بتحفيز براعمه كلها تقريباً واحداً فواحداً قبل تركِها لتتفتح؟ كم كنتَ تُحبّ قطف ثماري! كم كنتَ تسكر من عطوري! وكم كنتَ ترتوي من عصيري! لتمضي بعد ذلك كلّه بعد أن بعتني مُقابل خلاص روحك. أية خيانةٍ هذه يا أوريل، أية خطيئة! لا، لا أستطيع أن أؤمن بإلهٍ يتطلّب تضحياتٍ بشرية. أنا لا أؤمن بإله يُحطِّم حياة امرأة لينقذ حياة رجل." (ص 95-97) " بعد ظُهر أحد الأيام استشطتَ غضباً ضدّي، مباشرةً بعد أن أفعمتنا lينوس بحضورها أنتَ وأنا فقمت بضربي. هل تتذكّر عنف ضرباتك؟ أنتَ يا أوريل يا بروفيسور البلاغة قمتَ بجلدي لأنكَ استسلمتَ لعذوبتي. لقد حمَّلتني مسؤولية رغبتك […] لقد ضربتني وأخذتَ تصرخ بي أيها الأسقف لأنني عدتُ لأصير تهديداً لخلاص روحك. ثم أمسكتَ بعد ذلك بعصا واستخدمتَها في ضربي قياماً وقعوداً. لقد اعتقدتُ أنكَ تريد أن تقضي عليّ بضرباتك. […] لم أعد أُمثِّلُ لكَ مِن حينها أكثر من مجرَّد غواية عليكَ أن تُشيحَ بوجهكَ عنها لتُنقِذ روحك. لقد أصبَحتُ حَمَلَ الأُضحية التي ستفتح لكَ أبواب السماء. ثم انهرتَ باكياً، كيف يمكن لتلك اللحظةِ أن تُنسى؟ […] لقد جمعتَ يديكَ وأخذتَ تُصلي متوجهاً إليّ حيناً وإلى ربّكَ حيناً آخر متوسِّلاً أن يعفو عنّا نحن الاثنين. ثم وجدتَ ما تُضمِّد به جراحي. لقد كنتُ بردانة وكنتُ خائفة. بردانة لأنني كنتُ لا أزال أنزف، وخائفة لأنني اكتشفتُ شكلاً مِن الفظاظة لم أكن قد ارتَبتُ بها من قبل أبداً." (ص 215-217) "أُحبّ فكرة أنّ الله الذي خلق السماء والأرض قد خلق lينوس أيضاً […] هل ابتعدتَ بذلك عن الله إذن؟" (ص 201)
"إنّ الحياة قصيرة، بل وقصيرة أكثر من اللازم ومع هذا فإننا نعيش الآن وهنا، وقد نعيش فقط الآن وهنا hic et nunc. إذا كان الأمر كذلك، ألا ترى بأنّك تدير ظهرك إلى هذه الأيام القصيرة التي ورغم كل شيء لا تزال تنير حياتك في حين تُضيع نفسكَ في متاهةٍ ذهنية قاتمة لا أستطيع أن أوافيكَ إليها ولا أستطيع مساعدتكَ في الخروج منها" (ص 165) " تخيّل للحظة أنه لا يوجد إلا هذا الواقع! في هذه الحالة لن تكون مُقبلاً نحو الضوء، ولكن مُدبراً عنه. ألم تعد ترى الأوراق في الغابة يا أوريل؟ هل لازلت تستطيع أن تلاحِظ وجود عالَمٍ يحيط بك؟ إذا لم يكن ما تراه بالعين المجرَّدة يحوز على حظوةٍ لديك، فإنك لست إلا بأعمى." (ص 169). "لقد توقفتَ عن الحُبّ يا أوريل، لقد توقّفتَ عن تذوّق الطعام ولم تعد تتنسَّم عطر الزهور ومنعتَ نفسكَ من الاستمتاع بسماع شدو موسيقا القصائد." (ص 231). "افتحْ بابكَ يا أوريل! أُخرُجْ وتعال تمدَّد تحت التينة3! أيقظْ غرائزكَ سوف لن يكون ذلك إلا للمرة الأخيرة. افعلْ ذلك من أجلي يا أوريل مُتذكِّراً ما عرفناه معاً في الماضي. خُذْ نفساً عميقاً، استمعْ إلى شدو العصافير، تأَمَّلْ قُبَّة السماء الزرقاء واترُكْ كُل العطور لتتفتَّح فيك. إنّ العالَم هو كلّ هذا يا أوريل وهو موجودٌ الآن وهنا. لقد أضعتَ نفسكَ في متاهات اللاهوتيين والأفلاطونيين، […] إنّ العالَم كبيرٌ جدّاً ونحن نعرف القليل جدّاً مِن الأشياء عنه كما أنّ الحياة قصيرةٌ جِدّاً. أولم تُفكِّر بهذا يوماً وأنتَ تقرأ شيشرون؟ ربّما لا يوجد أبداً إلهٌ يساومنا على أرواحِنا الفقيرة وقد يكون هناك إلهٌ واقعيٌّ مليءٌ بالطيبة خَلقَنا لنعيش على هذه الأرض؟" (ص 239)
الهوامش:
- أوريل هو الاسم الأول للقديس أوغسطين Aurelius Augustinus
- قام غاردر بنشر الرسالة كاملةً في كتاب نأخذ عن ترجمته الفرنسية هذه المقاطع. انظر: Josten Gaarder, Vita Brevis- Lettre de Floria ئmilia à Aurèle Augustin, Seuil, 1998
- تذكِّره بأول لقاء جمعهما حيث التقيا مع بعض الطلبة الآخرين في ظلّ شجرة تين في قرطاج.
- نقلا عن الأوان
its wonderful but if u can share the oggesten confess book on this site
ردحذفthxx
بعد التحية لجهدك الكبير وانت مجتهد في ما تكتبه وتفتح به عقولنا، اعتقد ان هذه الرسالة منحولة وهي ليست من كتابة امراة على الاطلاق. هي كتابة احد الابيقوريين المعارضين للزهد ونسبت لهذه المراة المسكينة.
ردحذف