سأخون وطني كمان وكمان!
نشر النص في القدس العربي
ميدان طلعت حرب، أشبه بروما فكل الطرق تؤدي إليه.. هناك كنت أتسمر قليلا أمام مكتبتي مدبولي والشروق، ثم أبدأ رحلتي التي تحط أحيانا بالقرب من الحسين.. أما طريق العودة إلى الفندق، فيلزمه حاسة الاهتداء عند الطيور، ولكوني فقدتها منذ ملايين السنين.. كنت مضطرا لتكرار نفس الجملة بدون كلل: شارع محمد فريد لو سمحت؟ شارع محمد فريد من فضلك.. أحيانا يصبح هذا السؤال مقدمة للدخول في مقدمة ابن خلدون، والإبحار في التاريخ والاجتماع البشري.. فالفضول على ما يبدو مهنة الناس جميعا (وليس مهنتي وحدي)
أما الحادثة الجلل التي أرويها، فقد بدأت فصولها في منطقة العتبة. (وما أدراك ما العتبة) مكان يحتشد فيه خلق كثير، وآلاف من العربات والأكشاك والباعة.. قبيل الإفطار ترتفع عصبية الناس وعجلتهم وضيق نفسهم، واستطيع القول (وأنا بكامل قواي العقلية) بأن الكثافة البشرية في العتبة تساوي كثافة الحجيج عند رمي الجمرات.. هناك وسط ذلك الحشد الجماهيري، داهمتني حاجة ملحة لمرافق صحية (بالعربي: تواليت) ثمرة أينعت وحان قطافها، بعد يوم من التسكع، والتسلل إلى بعض المقاهي (المفتوحة أثناء رمضان على خجل)، وبتعدد زيارات التدخين تعددت كؤوس الشاي التي تجرعت.. أصبت باحتقان رهيب.. في ريفنا الشامي نسمي العملية (تطيير الماء) والدلالة جاءت على مايبدو من عادة التبول على الهواء مباشرة، في براري الله الواسعة.. وتسمى بالفصحى (الاستنجاء) وقد تركت لنا المدوّنات العربية شروطا مهمة للاستنجاء (خصوصا التغوّط) حيث ألح البعض على ضرورة استخدام حجر (طاهر، أملس، قالع) واستمر هذا التقليد إلى أن أجاز المذهب الحنفي استخدام الماء في التنظيف (لذا أطلق العرب على صنبور الماء اسم الحنفية).. وعودة إلى المصيبة التي كنت فيها، فالسؤال وسط تلك الجموع عن تواليت كان يبعث على الابتسام والشفقة بآن معا.. بعض المحال المفتوحة وأصحاب المطاعم الصغيرة، المنهمكة في إعداد وجبة للصائمين، أشاروا إلى محطة بنزين قريبة، سلمت أمري ومشيت لكن مقاومتي بدأت تتهاوى.. فكرت لحظة.. أأفعلها على نفسي ثم أبكي كطفل فقد أمه في الزحام؟؟ وصلت.. يا إلهي ماذا أفعل.. فمحطة البنزين الموعودة، لا تحوي مكانا لهذا الترف الإمبراطوري.. أشرت إلى سيارة تاكسي. وتمنيت لو أنه يطير فوق السيارات، كي أصل الفندق وأدخل بيت الراحة على راحتي. غير ممكن. فالازدحام شديد ومرور سيارة من ثقب الإبرة أهون من مرورها في الشارع.. قفزت من التاكسي بعد أن فقدت الأمل.. في تلك اللحظة المصيرية من تاريخي، وبينما كنت كالمتشبث بغصن كاد ينكسر، لمحت علامة لمحطة المترو! هرولت مسرعا، وهبطت الأدراج، وسألت شرطيا (يرتدي ثياب بيضاء كالملائكة).. أجاب هنالك تواليت مخصص للموظفين، يقع في الممرات التي يسلكها المسافرون إلى الجيزة.. إنما توجب عليّ شراء تذكرة للمترو، كي يتسنى لي فتح البوابة الآلية (التي تشبه العتلة)... قفزت باتجاه شباك التذاكر.. لكن سوء حظي، وقف لي بالمرصاد (كالعادة).. جموع غفيرة سبقتني إلى الشباك وأخذت تتدافع بالمناكب.. قلت:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق