نادر قريط
لكن انبثاق عصر الفضائيات، وارتفاع حرارة (المريض العربي) ودخوله أطوارا من الحمي والهذيان وارتفاع أسهم المحللين السياسيين، والخبراء (وقارئي الكف) وحاجة الميديا الجديدة للطرب السياسي والتصعلك الاعلامي والرقص علي أنغام (الفوضي البناءة) جعلني (أتقلب علي جمر النار ..كما تقول أم كلثوم)، وانزلق تدريجيا بين أصابع الاحداث، مدفوعا بحنين غامض للوقوف علي الأطلال وتذكّر الأحبة ...
وهكذا بدأت أبحلق في الشريط الاخباري، وأقرأ ما يدبجه كتاب المقالات .. لأشعر بعدها أن فقري زاد فقرا وقفري قفرا، فالمعارضة السورية الداخلية ليست سوي أسماء يتواتر ذكرها في الأحاديث الصحيحة، والمعارضة الخليّوية ما هي الا مجموعة من الشخصيات المتنافرة، تتراوح بين (معارضة غرام وانتقام) كما هو حال السادة رفعت و خدام، أو حقوقية فكرية (كأنصار ربيع دمشق) أو معارضة اخوانية أرثوذوكسية (مراقبها العام لايراقب أحدا) أو أفراد خصيان (يتباهون بعظم بيضات أمريكا) في حين تتلاشي صورة سورية وتضيع في أغلبية صامتة، أنهكها الكدح والحيلة أمام لقمة العيش، واحتساء كؤوس البطالة في المقاهي والحديث عن فواجع العراق، وتقارير ميليس وبرايمرز، وأفكار بالهجرة (لمن استطاع اليها سبيلا)، وأحلام يقظة بربح اليانصيب. أما الاعلام المرئي السوري فيزيد من عبثية الصورة، ونشازها، فكلما أتوقف عند الفضائية السورية، تخرج (لسوء حظي) فرقة الدراويش (الغلابة)، لتلفّ كمغزل الصوف، أمام وفود السياحة وزوّار الفرنجة (كي تدوّخهم) وتضطرهم لكيل كلمات الثناء والاشادة والاطراء والمديح لهذا الشعب وقيادته وكرمه وحسن (رقصه) ولذيذ تبولته وكبّته...وعادة مايعقب ذلك كلمات لبعض المهاجرين العجائز (العائدين توا)، والذين طفشوا من برودة الغربة آملين بجنازة حميمية وقبر دافئ بين أهلهم وذويهم !!
أما البرامج الحوارية ومدارات الثقافة، فهي تثير غضبي ورعونتي أكثر من أي شيء آخر، خصوصا عندما يجمع الضيوف (بقلب وصوت واحد) علي أن سورية هي أم الحضارة ومرضعتها، وأن أوغاريت مهد الأبجدية ... لأني أتذكر أهلي في حوّران، الذين تشبثوا بأميتهم وأنهوا نصف القرن العشرين (علي الأقل) وهم يسكنون خرائب رومانية، ويقتاتون علي ما تهبه الأرض من حشائش (خبيزة وهندبة وعكوب) وحبوب، (تنبت برغبة السماء).. وكأنهم لم يضيفوا الي العصر البرونزي الا (طناجر النحاس) والبؤس وبعض المواويل والعتابة !! من هنا أجد دعابة شكري القوتلي، أثناء توقيع ميثاق الوحدة عام 1958، وقوله لعبدالناصر ما مفاده (استودعك شعبا، ثلاثة أرباعه من الزعماء، وربعه من الأنبياء..) مقولة لاتملك من الطرافة الا لفظها، فقد كان حريا برجل كالقوتلي: أن يستودعه شعبا، ثلاثة أرباعه من الأميين، وربعه من البدو الرحّل!! واذا عدت الي صدد الموضوع (بعيدا عن الشطط) فان أهم مايسترعي الانتباه في الحالة السورية (والعربية عموما) هو غياب مشروع، يفتح الآفاق ويغرس بذرة الأمل في النفوس، فالجدل الدائر حاليا، لا يؤتي ثمرا (ولا بطيخا) لأنه نقاش يدور في حلقة عبثية، وشيطانية .. فما هي الاضافة المعرفية، اذا زأر أحدنا بأعلي صوته وكال الشتائم للنظام ونعته بالاستبداد والفرعنة والشمولية والفساد ......أو قال في المعارضة مالم يقله مالك في الخمر أو عكس ذلك..ألا تعتقدون أننا نخطئ اذا اعتبرنا النظام السياسي (هبط من الفضاء الخارجي، أو صنع في دهاليز المخابرات الدولية) أليس من التبسيط والسذاجة، أن نحلل ظواهر الفساد والاستبداد والاستئثار بالسلطة والثروة والبطولة والخيانة والعنتريات والهزائم وقانون الطوارئ والأحزاب (وكأنها مراسيم جمهورية محضة، مهرها الحاكم بتوقيعه).. دون العودة الي مركبات التاريخ وعلوم الاجتماع البشري وثقافات الأمم. ومقدما أقول للاخوة الذين يودون الهرب من (سماجة كاتب السطور)!
ان السلطة الحاكمة والمعارضة والعرب والكرد، هم ثمرة لصيرورة تاريخية وبني اجتماعية ومعرفية...انتجت سورية الحالية ...التي تعبر عن انتكاسة مشروع الحداثة الذي يبدو وكأنه ولد لقيطا علي يد قابلة (الانتداب والحماية الفرنسية)، ثم هدر دمه علي يد القبائل والثقافة السائدة ..ملخص القضية، أن ما سمي مشروع النهضة والتنوير، كان مهيض الجناح، سرعان ما ترنح وسقط بالضربة القاضية، أمام قوي تراث عتية (وهي منظومة أبوية، قبلية ترتكز علي حق الدم والغلبة والعصبية الدينية والمذهبية) وتتنافي أساسا مع مفهوم الدولة الحديثة، (المرادفة لعقد اجتماعي بين أفراد وقوي سياسية اجتماعية واقتصادية، تنصاع لدستور مهرته الأجيال بعرقها وكفاحها) لقد شاءت الأقدار (والقوي الدولية التي مزقت السلطنة العثمانية) أن نولد في ديمغرافيا هشة (مثلها الغاء وحدة سورية الطبيعية، وانشاء الدولة اليهودية، واهتزاز السكينة القروسطية) وأن نحمل هوية قلقة !!
أشار لها أحد السوسيولوجيين بنباهة، عندما لاحظ أن لفظ (سوري) يمثل هوية خادعة ومزيفة ولا يتماثل مع نظيره (تونسي أو مصري أو مغربي)، لكونه تعبيرا يطأطئ رأسه وينحني أمام لفظ (عربي)، ولا ينضبط بل يتمرد علي لفظ (مسلم) وذلك بسبب الفسيفساء الدينية والمذهبية ..ومن المفيد أن نتذكر أن الديموغرافيا السورية قد لعبت دورا حاسما في صياغة الأحداث اللاحقة (حسب احصاء اجرته الدولة العثمانية عام 1908 تحت اشراف القناصل الأوروبيين بلغ تعداد سورية الطبيعية 3.5 مليون، نصفهم من السنّة ..والنصف الآخر من مذاهب وأديان أخري أهمها موارنة، أرثوذكس، كاثوليك، أرمن، موسوية، ومذاهب اسلامية كالدروز والعلويين والاسماعيلية والشيعة الاثني عشرية ) ولاشك أن هذه الفسيفساء اللا سنيّة (خصوصا المسيحية) كانت السبّاقة في استقبال الحداثة (عبر انتشار مدارس اليسوعيين والانجيليين والطباعة وحركة الترجمة وتأسيس الكلية الانجيلية السورية التي أصبحت فيما بعد الجامعة الأمريكية في بيروت ...) ولتصبح ابتداء من النصف الثاني للقرن19 مهدا وحاملا ومعقلا لحركة النهضة والقومية العربية، ونقطة للانقضاض علي الجامعة الاسلامية للسلطان عبد الحميد . ثم مالبث أن تحوّل المشروع القومي العربي برمته، الي يافطة لامعة وكبيرة تقبع خلفها كل الأقنعة، والثقافات المقفلة بمفتاح التراث ..صحيح أن العروبة كانت (ضامنا ) لمشروع وطني واعد، لكنها بنفس الوقت عكست هشاشة بنيوية مستمرة، لأن تلك الفسيفساء (اللا سنيّة)، التي بدأت تتقدم (مستثمرة بداية روح العلمنة الفرنسية التي وفرها الانتداب، وسبقها في التعليم الحداثي) وتشغل فضاءات الادارة العثمانية الشاغرة، الا أنها كانت تمارس في آن معا ثقافتها التقوية والقبليّة المغلقة (ناهيك أنها تقوم أساسا علي ادعاء الأصالة والنقاء والتفوق) أمام أغلبية سنيّة تقودها ارستقراطية دينية مدينية واقطاعية، تعوّدت الهيمنة علي المحيط المترامي، والتعامل معه بنرجسية واحتقار (يعبر عنها الموروث الشعبي المكبوت في اصطلاحاته الاحتقارية) ومنها نعت الحوراني بالهمجية والعلوي بالهرطقة والدرزي بالخيانة والشامي بالجبن والنذالة .. أما غضب الأم علي ابنتها، فتعبر عنه بدعوتها عليها أن تتزوج متوالي (شيعي). وقد لعبت اللغة والثقافة العربية التقليدية (كآلية ضابطة للجميع، ووعاء فكري مشترك) دورا في تمكين التورية، والتمويه، وتكريس المسكوت عنه، والاكتفاء بالخطاب الشعائري والشعاراتي والشعري، فهي من حيث الجوهر ثقافة ترتكز علي الخطابة والمجاملة والمقدمات والديباجات ونبذ الطبيعي وتعليم كل ماهو (غير طبيعي)! لذا فان فضح المسكوت عنه وتحليل البني المعرفية لثقافتنا الأبوية المزيفة والمزوّقة، مقدمة جدية لفهم آليات الصراع الحاصل في مجتمعنا .. وضرورة حيوية لفتح الآفاق أمام مجتمع متعافٍ من أمراض التاريخ ..
ولا يسعني في النهاية الا تذكر مقولة ميكافيلي لأميره: اذا أحسست أن الثورة قادمة، فبادر الي اشعالها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق