آراء في نشأة الكتاب المقدس
عندما وضع الإنكليزي Kennicott عام 1780م نسخة الكتاب المقدس العبري، كان أقدم مخطوط إستعان به، يعود لعام 1106م، آنذاك علق أحد مفكري عصره Eichhorn قائلاً: إن العثور عما هو أقدم أصبح شيئاً من قبيل الأمنيات اللذيذة، وكـأنه يغمز إلى عدم قناعته بوجود نسخة أكثر قدماً!!أما دافيد شتراوسD. Strauß صاحب كتاب ( حياة يسوع. أعمال للشعب الألماني) فقد شرح الأمر ببساطة عام 1864م قائلا: الإهتمام بملوك نينوى أو فراعنة مصر، هوإهتمام تاريخي محض، لكن البحث عن نشوء ديانة حيّة، هو إصطدام، وإستدلال على واقع حاضر؟؟ شتراوس هذا كان من أوائل الذين أثبتوا بجلاء أن نصوص الكتاب المقدس قد أختلقت في وقت متأخر جداً، لهذا حُكم على كتابه ( حياة يسوع ) أن يُخنق في الأوساط الأكاديمية، وأن لايصل للشعب الألماني؟؟
في مطلع القرن العشرين استأنف النقد التاريخي حراكه مع السويسري بالداوفBaldauf والألماني كامماير Kammeier الذيّن كانا على قناعة بأن الكتاب المقدس ( وبالأخص العهد الجديد ) قد دُوّن في القرون الوسطى العليا ( القرن 11و 12 و13) واعتمدا في فرضيتهما على محتوى الكتاب المقدس نفسه، حيث أن تأملا عميقا للـأناجيل وأعمال الرسل يمنح إنطباعا بأنها كُتبت من أناس لم يعرفوا فلسطين جيداً ولا اليهودية وطقوسها المعقدة ، ولم يُلموا باليونانية إلا كلغة أجنبية، مع جهل مطلق بالآرامية!! ومع تقدم البحوث وآليات النقد التاريخي، نجد أنفسنا مرة ثانية أمام نفس السؤال: متى نشأ الكتاب المقدس القانوني Canan ( بعهديه القديم والجديد )؟؟ الذي يتلوه المؤمنون ( تقبّل منا ومنهم صالح الأعمال ) ؟ الإجابة قد تطول إلى مالا نهاية، وإختصارا، سأوثر الوقوف عند نقاط مهمة وجوهرية:Delitzsch وهوأحد باحثي التوراة يعتبر غزو أرض كنعان من قبائل بدوية يهودية في بداية عصرالحديد، أمراً لاعقلانياً، ويقول: لا إله بدون أرض، لذا توجب على يهوى أن يحتل موطناً، لأن الشعب اليهودي ( الموجود في المعنى الديني فقط ) يحتاج إلى موطن يصله بذلك الزمن الضبابي القديم. لهذا فإن التوراة هي قصص جمعتها الجاليات اليهودية المتناثرة بين أوكرانيا وأسبانيا( بحدود القرن العاشر ) قصص جنونية حاولت أن تغرق في القدم( آلاف السنين) لتصل إلى أن بداية اليهود، كانت مع بداية الخليقة! وبهذا لايمكن لأحد أن يتجاوز هذه المشروعية!!
وإلى هذه النتيجة وصل أيضاً Hungerو Stgmüller فقد اعتقدا أن الكتاب العبري ( التوراة ) خلقه اليهود المازوريون في الشرق، وفي زمن غير محدد؟ أما النسخة النهائية، فقد أنجزت كنصوص مترابطة مطلع القرن 11م ( 1008م)، وهوالزمن الذي نشأت فيه اللغة العبرية الكلاسيكية الراقية، التي لم تحكىَ سابقا، فيهود الشرق لم يتكلموا سوى اللغة الأرامية العمومية، وكالعادة فقد إدعى المازوريون أنهم أحرقوا كل النسخ المحرّفة التي تداولها اليهود قبلهم!! وهذا يذكرنا بقصة الخليفة عثمان أثناء جمعه للقرآن، وحرقه نسخاً مخالفة، وبقصة القيصر قسطنطين السابع في بيزنطة القرن العاشر، وحرقه للأناجيل المحرّفة ( الآبوكريف )!!أما الصياغة الحديثة للكتاب المقدس الحالية، فتعود إلى نسخة Vulgataوهي نسخة حديثة أعدها إيراموس Eramus من روتردام قبيل ظهور مارتن لوثر بقليل ( القرن 15)، والتي اعتمدت على أقدم المخطوطات اليونانية؟؟ وهنا بيت القصيد، ماهي هذه المخطوطات القديمة؟ وأين هي، وكيف جرى تزمينها وتحديد عمرها؟ بعد إيراموس ( القرن 15) عرفت أوروبا عددا من المخطوطات اليونانية Codex: أولها الأسكندري، الذي كُتب حوالي عام 1100م ثم وصل إلى إستنبول عام 1621م، بعد أن أنقذ في اللحظة الأخيرة من أيدي أحد الباعة الذين استخدموه في لف السمك للزبائن!!! ثم أهدي إلى بريطانيا. (ونفس القصة سمعناها أيضاً عن لقيّة نجا حمادي في مصر في القرن العشرين، فقد أشير إلى فلاحين مصريين كانوا يُوقدون تلك المخطوطات لغرض التدفئة!! وهي اللحظة الحاسمة، لظهور البطل الذي ترسله الآلهة لإنقاذها، على طريقة حضور الشرطة في الأفلام المصرية ) أما المخطوط الفاتيكاني فيعود إلى 1475م، (البعض ينسبه إلى القرن الثالث أو الرابع) وهنالك مخطوط آخر يسمى الإفرايمي، عثر عليه في باريس، ولم يكن بمستطاع أحد فك رموزه، التي أوحت أنه يحوي نصوصاً من الكتاب المقدس تعود إلى القرن الخامس، وقد كان تعرضه للغسل( في القرن 12م) واستخدامه في كتابة موجزات لاهوتية سورية ومواعظ إفرايم السوري، السبب وراء صعوبة قراءته، إضافة إلى تداخل بين كتابة إفرايم والنص المغسول.
حينها ووسط حيرة الأوساط العلمية، إبتسم الحظ ، لعالم الوثائق القديمة الشاب الألماني المتوقد ذكاءً ، قسطنطين تيشندورفK.Tischendorf، الذي استطاع أثناء إقامته القصيرة باريس، عام 1843م، من حل طلاسم هذا المخطوط وقراءته، لكن هذا الشاب البروتستانتي الطموح لم يكن ليستكين ويهدأ قبل أن يثبت للعالم المتشكك أن كلمة الله الأصلية ماتزال كماهي تنقلها الأجيال حرفا حرفا منذ أن نزلت على موسى في سيناء، لذلك شد الرحال وأبحر إلى مصر عام 1844م، ليبحث في دير كاترين عما يشفي غليله، ويشبع وطموحه. في الحقيقة لم يعثر في رحلته الأولى إلا على عدد من الأوراق( أيضاً ويا للصدفة، فقد ألتقطها من سلة في الدير، والنيران تكاد تلتهمها!! ) ثم سافر إلى مصر ثانية عام 1853م وعاد خالي الوفاض، وأعاد الكرّة بعد تسعة أعوام 1869م ليعلن للعالم إكتشاف أهم كنوز المسيحية قاطبة ألا وهو المخطوط السينائي( لا أدري معنى إكتشافه إذا كان المخطوط موجودا أصلا في الدير، إلا إذا إعتبرنا رهبان دير كاترين مجموعة من الغلاظ الأجلاف!! كما وصفهم في كتبه لاحقاً) وبما أن الدير كان تحت إشراف الكنيسة الأرثودوكسية، فقد تم إهداء هذا المخطوط إلى القيصر الروسي، راعي هذه الكنيسة. وقد أحدث هذا الكشف دوياً هائلا لايضاهيه إلاّ إكتشاف مقبرة توت عنخ أمون فيما بعد، وأدّى إلى تقاطر البيوتات العلمية والأرستقراطية إلى بطرسبورغ لرؤية هذه التحفة النفيسة، التي تثبت أن هذا الإيمان ليس مزحة بل يستند إلى دلائل لايعتريها شائبة!! عام 1933م باع البلاشفة هذا المخطوط للمتحف البريطاني بمبلغ خيالي؟ وترجع أهميته، ليس لإحتوائه على العهدين القديم والجديد وحسب، فهذا أمر مهم؟ لكن الشيئ المدهش والمثير هو ضمّه بين دفتيه نصوص إنجيل برنابا، ومواعظ حريما، وهي من الكتابات التي نبذتها ومنعتها الكنيسة ( منذ القرن الثالث ميلادي ) بكلمات أخرى نحن أمام إثبات دامغ بقدم هذا المخطوط وأصالته!! فلو كان حديثا لما إحتوى على هذه الكتابات المهرطقة؟؟ ومع أن المخطوط لايزال يتمتع بإحترام الأوساط الأكاديمية التقليدية، والمتحف البريطاني (الذي لايسره خسارة أمواله)، إلا أن تزمينه قد أرتفع تدريجيا من القرن الثالث إلى الخامس، ومعظم الباحثين يصرون الآن على القرن السابع !! أما كامماير الأب الروحي لحركة النقاد الجدد، فله رأي آخر!!لقد استطاع بتحريّاته التي تشبه عمل التحريّ الجنائي، من جمع كثير من الخيوط والأدلّة التي تدين تشيندورف نفسه، وتتهمه بنحل وتزوير السينائية، بمساعدة أحد النصّابين المحترفين، وهو راهب يوناني سابق إسمه سيمونيدسSimonides قضى شبابه في مكتبة دير آرثوس في إحدى الجزر اليونانية، ثم خرج ليمارس النصب وتزوير التحف القديمة وبيعها للأثرياء الأوروبين، لقد استطاع كامماير أن يتابع أدق التفاصيل عن حياة تيشندورف وكتاباته، وكل ما لاكته الصحافة آنذاك، حتى أنه إكتشف إعترافاً لسمونيدس يقرّ بموجبه أنه زوّر السينائية بخط يده، لكن إعترافه لم يجد أذنأ صاغية، ولم يكن أحدَ مستعداً، لتصديقه، وتكذيب عالم الوثائق الذي سطع اسمه في أوروبا.
وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى الدراسات الحديثة، أثبتت إستحالة قراءة بعض المقاطع المغسولة( أو الممسوحة ) من ذلك المخطوط، بدون إستخدام الأشعة الفوق بنفسجية، والتي لم تكن قد اكتشفت في زمن تشيندورف!! وهنا يبرز السؤال: كيف استطاع عالم الوثائق القديمة تيشندورف أن يخمنها ويقرأها بدقة؟؟
بعد هذا الإيجاز، دعونا نسأل عن كامماير الذي يُسمّى الأب الروحيّ لحركة النقد المعاصرة؟؟وُلد فيلهم كامماير عام 1889م، وبدأ نقده عام 1926 بكتاب إسماه: التزوير الكوّني للتاريخ، لكنه لم يعثر، على ناشر، خصوصاً إذا عرفنا أنه مجرد معلم إبتدائية، لم يحظى بقبول واعتراف الأكاديمية العلمية البرويسية في برلين، ثم كتب: نحل التاريخ الألماني Die Fälschung der deutschen Geschichte عام 1935م ولم يحظى أيضاً بإعتراف السلطة النازية الصاعدة، وفي نهاية الحرب وقع في أسر الحلفاء، وأطلق سراحه وعاد إلى مقاطعة تورينغن في ألمانيا الديمقراطية ، وكتب عام 1956 أهم أعماله: النحل في تاريخ الكنيسة القديمة Die Fälschung der Geschichte des Urchristentums أيضاً لم تسمح السلطة الشيوعية بطبعه!! وأخيراً توفي عام 1959م بسبب سوء شديد في التغذية، إثر صراع طويل مع البطالة والجوع!!ولولا أن إلتفت إليه المؤرخ أولريخ نيميتس H.U Nemietz عام 1991م وأذاع أعماله، لاستمر قابعاً في غياهب النسيان.لا أنكر أني تأثرت شخصيا بقصته، وشعرت بحزن ساحق لمأساته وجوعه، خصوصاً بعدما عرفت أن سعيه للكتابة، لم يكن ترفاً فكرياً، بل هماُ معرفيا لمفكر إنسانيّ عميق... وقد لخص أعماله قائلا:
أكتبُ لدوافع تنويرية نبيلة، لأن تاريخاً مزوّرا، هو خطر جسيم على الحضارة، ويمنحنا مفاتيح خاطئة تؤدي إلى معرفة ووعي خادع، سرعان ما يتحوّل إلى وقود لصراعات قادمة!! قرأت هذه الكلمات بحزن، لأني أسمع طبول صراع حضارات هانتينغون، وأبواقها، وأسمع جعير حماة التاريخ والمقدس، وصمت آخرين يخشون من عواقب سوء التغذية؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق