محمد المزوغي
يرى كارل لوفيث أنّ نيتشه أكمل إلحاد القرن التاسع عشر حين اعترافه بالعالم بما هو عالم، وبالكفّ عن تصوّر عوالم مفارقة. فكتاب "هكذا تكلّم زرادشت" هو إنجيل خامس موجّه ضدّ المسيحية ذاتها. ثمّ إنّ موت الإله يفترض أوّلا تجاوز الإنسان الراهن، أي الإنسان المسيحيّ، نحو الإنسان الأعلى، وإثره يغدو ممكنا استعادة العالم.
التعاليم النيتشوية للإنسان الأعلى هي، حسب لوفويث، قلب جذريّ لعقيدة الإنسان ـ الإله المسيحيّ، الذي كان الإنسان الأعلى في الماضي. لكنّ الإنسان الأعلى الجديد الذي جاء به زرادشت يريد تخليصنا من مخلّص الأزمان الماضية. إنّ عمل نيتشه يتلخّص في محاولة مماهاة الإنسانيّ مع الخاصية الكونية لمسيرة العالم والتي تُعوِّض بدورها "محاكاة المسيح (imitatio Christi)". نصيحة زرادشت بأن يبقى الناس أمناء للأرض، يؤوّلها لوفيث على أنّها ضرورة وجود أرضيّ خالص دون أيّ طموح نحو التعالي، لأنّ الإله قد مات والإنسان الأعلى تجاوز مجرّد الإنسان1.
قد تكون تأويلات لوفيث بخصوص هذه النقطة صائبة، إلاّ أنه على صوابها فهي تغضّ الطرف عن عوامل أخرى ربما تكون أكثر تحديدا في نقد نيتشه للمسيحية. فعلا، لقد تغاضى العديد من مؤوّلي نيتشه عن التّعريج على النواة الإيديولوجية الثاوية وراء معارضته للمسيحية، والتي ربما كانت السبب المحدّد لحملته العنيفة ضدّها. النواة الإيديولوجية يمكن العثور عليها إذا فتحنا أيّ كتاب من كتب نيتشه، خصوصا المتأخّرة منها. إنها تراتبيّة العلاقات الاجتماعية، العلوّ الأرستقراطي، احتكار الجاه في يد الرأسمالية الصاعدة التي ينبغي عليها أن تتشبّث بقيَمها، وتتحمّل بضمير مرتاح مسؤوليتها التاريخية وإن أدّى بها الأمر إلى القضاء على قسط كبير من البشرية: « الجوهريّ في أرستقراطية حسنة وسليمة، هو أن تشعر أنها ليست وظيفة بل أنّها المعنى والمسوّغ الأرفع … وأن تقبل من ثمّ، بضمير مرتاح، تضحية عدد لا يحصى من الناس الذين يجب أن يذلّوا من أجلها، وينحطّوا إلى أناس غير كاملين، إلى عبيد وأدوات 2».
أمّا الأديان ولاهوتها: الله، الشيطان، المسيح المصلوب، الخطيئة الأولى، الخلاص والنجاة في الآخرة، فهي لا تعنيه إلاّ بقدر ما هي مُدَعِّمة لتلك الفكرة وجالبة النصر للنموذج القادم من الإنسان الأعلى. وهذا النموذج ـ حسب نيتشه ـ يتجسّد، على أحسن وجه، في الإنسان الحربيّ، العنيف الفظّ الجاهل، الكاره للعقل والتنوير، والمحتقر للعامّة إلى حدّ تمنّي الفناء لها والانقراض. كلّ هذه التعاليم موجودة في كتاب "زرادشت"، وفي "العلم المرح" وموجودة أيضا في "أفول الأصنام" و"عدوّ المسيح" و"ما وراء الخير والشرّ"، و"جينيالوجيا الأخلاق" وغيرها.
لقد جعل نيتشه عدوّه الأكبر كلّ من يتفوّه بكلمة مساواة، أو يحاول تحقيقها في الواقع إن كانت مؤسّسة أو شخصا أو دينا. بعد أن وصف روسو بأبشع النعوت، وشَتمه بكلام بذيء، بَدَّع عليه، فقط، لأنّه دعا إلى المساواة (Gleichheit) بين الخلق. وتكفي هذه الدعوة بمفردها لكي تجعل من روسو، في عين نيتشه، إنسانا "دنيئا" (canaille)، و"جَهيضا (Missgeburt). فالمساواة، بالنسبة إليه، هي من بين الموبقات الفكرية التي لا تُغتفر أبدا، ولا ينبغي للمفكّر أن يثيرها أو حتى يتفوّه بها، لأنّه «لا يُوجد سُمّ أسَمّ منها، (es gibt gar kein giftigeres Gift)3».
كيف يمكن لنيتشه أن يكون محرّرا من أغلال الدين، وقاتلا للإله أو مخلّصا للإنسان من مرض المسيحية؟ كيف يكون زرادشت هو الإنجيل الخامس للبشرية وصاحبه يقول: «المريض هو طُفيليّ (Parasit) المجتمع4»، وبالتالي يجب على المجتمع أن يزدريه بشدّة (tiefe Verachtung)، أما الأطباء فواجبهم الوحيد، ليس معالجة المرضى أو إعطاءهم وصفة دواء (nicht Recepte) بل، إيصالهم ذلك الاحتقار الاجتماعي. كلّ يوم يمرّ يجب أن يُعطوهم جُرعة إضافية من القرف (Ekel)5. الطبيب الذي يعالج المرضى، انتهت مهمّته ولا مبرّر لوجوده بعد اليوم، لقد حلّ محلّه الطبيب الجديد، ذو المسؤوليات العالية، أعني ذاك الذي له الحقّ في تقرير مَن يَلِد ومَن يُولَد ومَن يَحيى.
نيتشه أعلن أنّ «مفهوم الله هو أكبر اعتراض ضدّ الوجود6»، ولكن حتى هذه القولة، التي تبدو هرطقية أو مُحرّرة من أسر الدين، تبقى في انسجام مع توجّهه اللاأخلاقي، لأنها عدوّة للإنسانية، وتتملّص من واجبات الإنسان تجاه أمثاله، وتُنكر وجود أيّ معيار يفرّق بين العمل الخيّر والشرّير، بين الفعل الصالح والطالح: الأشياء جميعها تتساوى في ذاك "الكلّ اللامتميّز"، حيث تغيب الرحمة والمسؤولية والواجبات الأخلاقية ويصبح كلّ شيء مباحا: «نحن نُنكر وجود الله، ننكر المسؤولية في الله: هكذا فقط نُخلّص العالم7».
ويبدو أنّ نيتشه لم يكن ناقدا للأسس اللاهوتية للديانات ككلّ وللمسيحية خصوصا، على أساس تعارض في المفاهيم، بل إن نقده انصبّ فقط على الوجه الإنسانوي، نسبيّا، من الدين المسيحي والأديان الأخرى. أعني بالدرجة الأولى مفهوم المساواة الكامن فيها مبدئيا: فكلّ الناس ينحدرون من أب واحد وأمّ واحدة والكلّ يشتركون في الإنسانية، وكما يقول المأثور الإسلامي "الناس سواسية كأسنان المُشط". والدعوة للمساواة لم تكن حكرا على المسيحية بل نجدها نوعا ما في اليهودية والإسلام والبوذية. ولكن ككلّ إيديولوجيا ازدواجية إن ساوت أنطولوجيا بين الناس فقد فرّقت بينهم على المستوى العقائدي وفضّلت المؤمنين على ما يُسمى بالكافرين، وهذه بوابة للعنف والحرب. فمبدأ المساواة إن كان مبدأ أوليّا في معاملة الخلق لا يجب أن يكون مشروطا بالإيمان أو بالانتماء الديني وإلاّ فسيَفقِد من معناه. إن الوعي بهذا المأزق النظري، والمأساة التي تنجرّ عنه، جعل المفكرين الأحرار يشكون في قدرة الأديان على تحرير الإنسان وزرع روح التسامح. ولقد عبّر الرازي الطبيب، قبل ظهور الماديين الفرنسيين بعدة قرون، عن هذه المعضلة أحسن تعبير، وطرح تحدّيا على مؤمني الأديان جميعا: «مِن أين أَوْجَبْتم أن الله اختصّ قوما بالنّبوة دون قوم وفضّلهم على الناس وجعلهم أدلّة لهم وأحوجَ الناس إليهم؟ ومِن أين أجزتُم في حِكمةِ الحكيمِ أن يَختار لَهم ذلك ويُشلي بعضهم على بعض ويؤكد بينهم العداوات ويُكثر المحاربات ويهلك بذلك الناس؟8».
إن كان الله حكيما، كما يزعم المؤمنون، فالأَوْلى به أن «يُلْهِم عبادَه أجمعين معرفة منافعهم ومضارّهم في عاجلهم وآجلهم؛ فلا يفضّل بعضهم على بعض ولا يكون بينهم تنازع ولا اختلاف فيهلكوا، وذلك أحوط لهم من أن يجعل بعضهم أئمة لبعض؛ فتُصدّق كلُّ فرقة إمامها وتكذِّب غيره، ويضرب بعضهم وُجُوهَ بعض بالسّيف، ويعمّ البلاء ويهلكون بالتعادي والمُجاذبات، وقد هلك بذلك كثير من الناس كما نرى9».
مبدأ المساواة الشامل واللامشروط هو الذي حرّك نقد الرازي للدين، أمّا نيتشه فإنّ محرّكه الأوّل هو مبدأ اللامساواة، علاوة على أنّ الرجل لا يرقى إلى مرتبة الرازي ولا إلى الفلاسفة الماديين.
ويبدو أنّ المساواة التي يرفضها نيتشه، بكلّ حماسة وعجرفة، هي المساواة الأنثربولوجية الأصلية التي قد تكون كامنة في الأديان التوحيدية، والتي يعارضها بمُثله العليا، أعني مُثل حضارة اليونان وعصر النهضة.
فالمسيحية بالنسبة إليه مسؤولة عن «الجريمة الكبرى ضدّ الحياة»؛ هكذا في "عدوّ المسيح" يعلن حرب إبادة ضدّها ويزعم كشف رذائلها ورهبنتها، التي تقف حجر عثرة ضدّ الانتقاء الطبيعي. لكنّ التخلص من المسيحية لا يعني إقامة الإلحاد على أنقاضها، كما يُنظّر إلى ذلك المفكّرون الأحرار والاشتراكيّون، بل دين جديد: يجب إدخال آلهة أخرى لا علاقة لها بالإله المسيحي أو بالقيم التي يجسّدها، أعني السلام والمحبّة والمساواة. فعلا، لقد مَكثت الإنسانية (الأوروبية) « ألفي سنة تقريبا دون إله واحد جديد10». إنّ مفهوم الإله الرحيم، الذي يعطف على المرضى ويرفق بالإنسان الضعيف « هو واحد من المفاهيم الأكثر فسادا على وجه الأرض11». ينبغي استحداث تصوّر جديد للإله، نيتشه يدعو، بصريح العبارة، إلى الاعتقاد في إله شرير (bösen Gott) قوي دموي، وليس إلها "مخصيا"، إله ضد الطبيعة12.
يقول متسائلا: « بأيّ شيء يفيد إلهٌ لا يعرف الغضب والانتقام والحسد والسخرية والمكر والعنف» إله لا يعرف حتى سحر الغلبة «والتدمير الهدّام؟13». لا يفيد في شيء، فعلا، هو إله صالح فقط للمرضى والمعاقين لأنه «متواضع، ينصح بسلام النفس وترك البغضاء، وبالمسامحة والمَحبة للصديق كما للعدوّ.. يَعِظ مُهذّبا الأخلاق دون توقّف، ينسحب إلى كهف الفضائل الذاتية، يتحوّل إلى إله للجميع، إلى شخص خاص، إلى كوسموبوليتي (Kosmopolit)14».
لكن حتى في هذه النقطة فإن نيتشه أخطأ، لأنه لو تصفّح كتب اللاهوتيين المسيحيّين وتعمّق فيها لوجد هذا الصنف من الإله الذي يدعو له، أي الإله الشرير الدمويّ. اللاهوتي ترتليانس (Tertulien) في كتابه "ضدّ مرقيون" يقول بالحرف: « إنّ الإله الذي لا يملك إلاّ الخيرية لا وجود له15»، والخيرية ذاتها غير ملائمة لفكرة الله لا من جهة طبيعته الذاتية ولا من جهة حكمته أو كماله. ترتليانوس يردّ تهمة الغنوصيين عليهم ويحاول إثبات أن فكرة الإله الخيّر، مطلق الخيرية هي « دموية جائرة وبالتالي لا تليق بهذا الاسم16». وهو يتعجّب من أطروحات مرقيون التي تسحب من الله صفة الشرّ، بل إنه يتعجّب من نزعهم عن الإله أحاسيس ومشاعر أنثربومورفية، مثل الغضب والندم والفرح والحزن والانتقام الموجودة في العهد القديم. ويقول بأن هذا الإله الخيّر الذي يتشبّث به الخصم، يصلح لخدمة المذنبين أو لِحَثّ الناس على فعل الخطيئة: « لقد اصطُنِع لكم إله أكثر إراحة، إله ليس بغيور، لا يغضب، لا ينتقم؛ إله في جحيم خال من النار؛ إله لا يملك ضدّكم لا تذمرا ولا غضبا، ولا ظلمة؛ إله لا يشعر إلاّ بالخير17». هذه الخيريّة التي يلوّح بها الغنوصيون أتباع مرقيون يصفها المسيحي ترتليانوس بأنها مجرّد حلم، أو شبح لا أكثر.
لكن، كما قلتُ أعلاه، هذا النقد النيتشوي للمسيحية، ولتصوّرها للإله، الذي قد يبدو نقدا جدّيا، لا يمسّ الهيكل الأساسي لتعاليمها اللاهوتية، بل إنّ نيتشه تبنّاها كلّيا ودافع عنها، سالكا في ذلك نهج الثقافة المحافظة. وأذكر بالخصوص مفهوم الخطيئة الأصلية، والبؤس الدائم الذي يَسِم الطبيعة الإنسانية ونكران السعادة للجميع. فالرجل قد تبنّى أفكار المسيحيين المحافظين، الذين عارضوا التنوير والعقلانية ومبادئ حقوق الإنسان والثورة الفرنسية. تعاليم الدين المسيحي لم تخضع للنقد الجذري إلاّ من طرف الماديين الفرنسيّين والتراث الاشتراكي: الأوّلون رفضوا الخطيئة الأصلية المدنِّسة واعتبروا الإنسان، بطبيعته، خيّرا وأن الشرور ليست إلاّ عوارض يمكن أن تُمحى عن طريق التعليم الشامل والقوانين الرشيدة؛ الاشتراكيون بدورهم عارضوا فكرة الشقاء الدائم الذي يؤبّد دونية الإنسان، ونظّروا للتفاؤل وإمكانية التقدّم المستمرّ وذلك بتحسين الأحوال المادية للناس وبالتالي القدرة على تحقيق السعادة وأسبابها للجميع على وجه الأرض. والمسيحيون رأوا في دعاة التنوير نقطة البداية للكارثة التي حلّت بفرنسا: حينما عملوا على نقض عقيدة الخطيئة الأصلية وعوّضوا فكرة السعادة المؤجلة إلى الحياة الأخرى، بإمكانية تحقيقها في هذه الحياة لأنه لا وجود لحياة أخرى. ومعارضة فكرة السعادة للجميع هي من بين الثوابت الراسخة في الذهنية الدينية: لقد أدانها البابا ليون الثالث عشر سنة 1878، حينما أعرب عن أن ما دَفع الإنسانية "إلى دمارها الأخير" هو في الأساس "التّوق الشديد نحو السعادة" (le désir ardent du bonheur) الدّنيوية. نيتشه يوافق هذه الفكرة مُضيفا إليها عناصر اللاهوت البروتستانتي التشاؤمي، وقرفه الشديد من العدالة والمساواة، الشيء الذي أفضى به إلى إدانة روسو والتهجم عليه لأنّ أفكاره قد مهّدت الطريق أمام الدعاية الاشتراكية، وذلك لاعتقاد هذا الأخير بأنّ الشرور والآلام التي تتخبّط فيها البشرية سببها انخرام المؤسسات الاجتماعية، وانعدام العدالة والمساواة.
لا يجب أن يُقضى على الدين أو تُفسَخ الأساطير من حياة المجتمع، كما يدعو إلى ذلك الاشتراكيون والملاحدة. الدين في نظر فيلسوف المستقبل، أي في نظر نيتشه، هو ضرورة لحفظ الإنسان الأعلى من هجمة الضعفاء والفاشلين: « إن الفيلسوف، كما نفهمه، نحن الأرواح الحرّة ـ بوصفه الإنسان الذي يتحمّل المسؤولية الأشمل ويحمل هَمّ مُجمل تطوّر الإنسان: إنّ هذا الفيلسوف سيستعمل الأديان لأجل عمله التأديبي والتربوي 18». أقف عند هذا الحدّ من الاستشهاد: المُترجِم العربي نقل الكلمة الألمانيّة (Züchtung) بـ"تأديبي" وكلمة (Erziehung) بـ"تربوي". وهي ترجمة لا بأس بها، إلاّ أنه كان من الأفضل لو عكس الترجمة فجعل من الأولى تربية ومن الثانية تأديب. لكنّ الإشكالية ليست تكمن هنا بل في كلمة "تربية" التي قد توحي، لأوّل وهلة، بمعنى التعليم والتنشئة الأخلاقية. لكنّ نيتشه لا يقصد هذا على الإطلاق: بل التربية عنده، كما تشير العبارة الألمانية (Züchtung)، ومرادفتها بالفرنسية (élevage) هي مصطلح يُستخدم عادة في ميدان الفلاحة وفي تربية الماشية لتنقية النسل وتحسينه، والقضاء على ما هو غير صالح للإنتاج.
وإذا ما نقلنا هذا المصطلح من الميدان البيولوجي إلى الاجتماعي والديني، فإنّ معادلة نيتشه تصبح واضحة ونتيجتها مُحقّقة: الأديان، إن أرادت البقاء، فعليها أن تلعب دورا اصطفائيا هامّا في المجتمع، وهذا الدور «متعدّد ومختلف بحسب أنواع البشر التي تُوضَع تحت وصايتها ومظلّتها19». ولنا أن نحدس بأنّ الزوجين المتقابلين والحاضرين دائما في تفكير نيتشه هما الأقوياء والضعفاء، ونعلم أيضا إلى أي وجهة يتّجه تفضيله، وما النتيجة التي يرغب الوصول إليها وتمريرها للقارئ: «بالنسبة للأقوياء المستقلّين المجبولين على الأمر والمهيّئين له، الذين يتجسّد فيهم عقل العِرق (Rasse) الحاكم وفنّه، سيكون الدين خير وسيلة لتجاوز العوائق وتحقيق إمكان السيطرة: بوصفه رابطة تربط الأسياد والأتباع معا وتكشف ضمائر هؤلاء، أي كوامنهم ودواخلهم التي ترغب في التملّص من الانصياع لأولئك وتسلمهم إيّاها20». هذا في ما يخصّ مجال السلطة السياسية التي تبقى دائما من مشمولات الأقوى، أمّا فيما يخصّ الميدان الروحي فإنه لا بأس أن تَمِيل «طبائع فريدة ذات أصل نبيل، إلى حياة أكثر انعزالا وتأمّلا […] إلى استعمال الدين نفسه كوسيلة لتأمين الهدوء بعيدا عن ضجيج أعمال الحكم الغليظة وعنائه […] إن الزهد (Asketismus) والتطهّر (Puritanismus) يكادان أن يكونا وسائل لا غنى عنها للتربية والتهذيب21». هذه هي مهمة الدين بالنسبة للأقوياء الذين يملكون زمام السيادة والحكم. وماذا عن الفئة المقابلة؟ ماذا عن الضعفاء؟ هنا يتكلّم نيتشه النخبوي، العنصري، وبهذه الكلمة لا أريد أن أخدش مشاعر أحبّائه لأن الرجل نفسه هو الذي يستعمل تلك الكلمة، أعني " العرق" (Rasse). وهو واع بأن حكمه هو حكم تفاضلي هرمي؛ وينبغي الإشارة إلى أن تلك النزعة لازمته طوال حياته واخترقت في العمق تخميناته الفلسفية، وإن حُذفت أو غُيّبت من أفكاره فلن يبقى من فلسفته شيء يذكر، بل إنها ستخضع لنوع من المسخ والتشويه التامّ. وأظنّ أنّ هذا ما فعله دولوز في كتابه "نيتشه والفلسفة".
فلنسمع إلى كلام نيتشه: «أما فيما يخصّ البشر العاديّين، أي السواد الأعظم المَوجود للخدمة والمصلحة العامة والمسموح له بالوجود لهذه الغاية فحسب، فإنّ الدين يَمدّهم بِرِضَى عن وضعهم ونوعهم لا يُقدَّر بثمن، بسلام مضاعف في القلب، بإعلاء لشأن انصياعهم، بسعادة وآلام جديدة يشاطرونها أمثالهم، بنوع من التسامي والتزيين، بنوع من التبرير لكلّ الحياة اليومية، لكلّ الوضاعة (Niedrigkeit)، لكلّ البؤس نصف البهيمي الذي في نفوسهم (Halbthier-Armuth ihrer Seele). إن الدين وأهمية الحياة الدينية يُضفيان بريقا نيّرا على أولئك البشر المعذبين أبدا ويمكنانهم من تحمّل مَنظرهم الخاصّ، وتأثيرهما أشبه بالتأثير الذي لفلسفة أبيقورية، عادة، على متألمين من رتبة أعلى. إنه يُنعش ويُصقل ويَستغلّ الآلام، إن صحّ التعبير، بل إنه يقدّسها ويبرّرها آخر الأمر أيضا22».
الدين هنا هو أفيون الشعوب حقّا، وكلمات نيتشه إن اقتلعت من سياقها تذكرنا بما قاله ماركس من أن الدين إذا خلعنا عليه هالته الأسطورية فهو تعبير عن بؤس حقيقي، ولكنه في نفس الوقت احتجاج ضد بؤس حقيقي. وقد شبهه بأزهار الإيديولوجيا التي تزيّن أغلال الإنسان المقهور. ماركس يرى أنه من الواجب كسر تلك الأغلال ورمي الأزهار الخيالية لقطف أزهار حية. النظام الرجعي هو الذي يزعم تحطيم الأزهار الخيالية لحمل سلاسل دون أزهار. المسيحيون، يقول ماركس «هم متساوون في السماء لكنهم متفاوتون في الأرض»، والدين بصفته أفيونا وتقنية عزائية يحاول تبرير الأمر الواقع وهو وسيلة محافظة سياسية واجتماعية غير قادرة على إدانة الاستغلال.
لكن بالنسبة لنيتشه أن يكون الدين أفيونا فهذا شيء محبّذ ومسموح به، بل ضروري، للصفوة، أو ما أسماهم بفلاسفة المستقبل، يستخدمونه لتخدير الدّهماء، وجعل الطبقة الشغيلة طبقة وديعة ناسية لهمومها اليومية وراضية باستغلالها. هنا تكمن عظمة الأديان وبالأخصّ منها المسيحية والبوذية: «وربما لا يوجد في المسيحية والبوذية أمر أكثر مَهابة من فنّهما في تعليم حتى أوضع إنسان كيف يضع نفسه، بفضل التبتّل، ضمن نظام للأشياء ظاهري وسامق، وكيف يتعلّق تاليا بالرضا عن النظام الفعلي الذي يعيش فيه حياة قاسية جدّا. ـ هذه القسوة بالذات تلزم هنا!23».
إذن، الدين دينان ولكل واحد منهما دوره ومهمّته: الدين الأوّل هو دين الأقوياء الذين يمسكون بمقاليد الحكم، أو أولئك الذين يرغبون في المحافظة على نقاوة نفوسهم عن طريق التأمل والخلوة حيث « يقدّم الدين لهم حوافز وإغراءات عديدة لانتهاج الدروب المؤدية إلى روحية عليا ولاختيار مشاعر الصمت والوحدة والتجاوز الكبير للذات»؛ أما الدين الثاني فهو الدّين الذي يستعمله الحاكم عن قصد كأفيون للعامّة، ذلك الصنف من الناس التي تقتصر مهمته على الانصياع لأوامر الأقوى، هنا يتدخّل الدين لتكريس عبودية أولئك الضعفاء وإشعارهم بوضاعتهم وتبرير البؤس في نفوسهم التي لا ترقى إلى درجة الإنسانية لأنهم أنصاف بهائم. إن نقد الدين عند نيتشه ينطبق عليه قول ماركس من أنه تقطيع للأزهار الكاذبة بغاية تبرير أغلال العبودية وتكريس وحشية علاقات الإنتاج السائدة في المجتمع الرأسمالي.
محاسن الأديان تكمن تحديدا في كونها أفيون الطبقة "الوضيعة" وفي تكريسها القهر والاستغلال، ولكن هناك وجه آخر للأديان سيّئ جدا بل خطير النتائج، ويتمظهر في جانبها الإنساني، أي حينما تكفّ عن أن تكون « وسيلة تأديبية وتربوية في يد الفيلسوف24»، يعني إذا استقلّت بذاتها « وسُرّحت على هواها». أين يكمن الخطر إذن؟ الخطر الأعظم يقدّمه نيتشه هكذا. وقبل أن أستشهد بأقواله أنبّه القارئ أن كلام نيتشه هو في أشدّ القسوة والعجرفة التي يمكن أن يتخيّلها إنسان. ملاحظة مبدئية: «عند البشر كما عند سائر أنواع الحيوان فائض من المُعاقين وأصحاب الأمراض والعاهات والمرتدّين عن النوع والمتألمين ضرورة25».
السؤال المطروح: « كيف ينظر الدّينان الكبيران المذكوران [البوذية والمسيحية] إلى هذا الفائض من الحالات الفاسدة؟26» الجواب: « إنهما يَسعيان إلى الحفاظ على كلّ ما يمكن حفظه وإلى إبقائه على قيد الحياة، لا بل إنهما يَتحزّبان مبدئيا لصالحه، بوصفهما دينيْن للمتألمين. يؤيّدان كلّ مَن يعاني مِن الحياة معاناته من مرض27».
الشفقة على المرضى والرحمة بالضعفاء ليست من احتكار الأديان؛ لم ينتظر الإنسان بروز البوذية أو المسيحية، لكي يعلم أنه من الأفضل الرّفق بالمريض وعلاجه على قتله، أو أنه من الأحسن مساعدة الفقير والضعيف على اضطهاده واستغلاله. وهذه تقريبا عادة راسخة في كلّ الثقافات والحضارات ولا تخصّ دينا أو شعبا دون غيره. إلاّ أن هذا الأمر، بالنسبة لنيتشه، له عواقب سلبية على النموذج البشري الأعلى: « إن الأديان التي سادت حتى الآن تدخل في باب الأسباب الرئيسية التي كبّلت طراز الإنسان وأبقته إلى درجة متدنّية ـ إنها أفرطت في الحفاظ على الكثير مما كان يجب أن يُهلك28». فعلا، أتباع المسيحية من الروحانيين الخُلّص، حينما أمّنوا للمُتألّمين قليلا من العزاء في حياتهم، وحين عملوا على طمأنة المقهورين واليائسين، وأحاطوا بالرعاية الفاشلين والضعفاء في الأديرة والسجون النفسية، عاملين مبدئيا على حفظ كلّ مريض متألّم، لم يفعلوا، بكلّ راحة ضمير، إلاّ على «إفساد العرق الأوروبي». لقد قلبوا المعايير رأسا على عقب، أعني المعايير النيتشوية: « حطّموا الأقوياء، سقموا الآمال الكبيرة، رموا الشبهة على السعادة [الكامنة] في الجمال، نكسوا كلّ مُتجبّر، رجولي، غازٍ، تائق إلى السلطة، وكلّ الفطر الخاصّة بأعلى طراز بشري وأنجح29».
المسيحية بالنسبة لنيتشه لا تُنقَد من حيث أطرها اللاهوتية، بل فقط لأنها شنت حربا شعواء ضدّ هذا النمط السامي من الإنسانية، أعني الإنسان الأعلى، مبطلة كلّ غرائزه الأساسية، ومن هذه الغرائز استنبطت ما هو شرّ، والشرير: الإنسان القوي، كنمط مستهجن، فعلا، «لقد انحازت المسيحية إلى كلّ ضعيف ومُنحطّ وفاشل». هنا بالتحديد تكمن مساوئ المسيحية ويتمظهر ضرر أخلاقياتها. وللتدليل على ذلك يعطي نيتشه مثالا مضادّا لدين آخر يمثّل النقيض الطبيعي لأخلاق المسيحية، إنّها الأخلاق الهندية الواردة في قوانين "مانو". في الديانة الهندية المُهمّة الأساسية تتمثّل في تنشئة أربعة أعراق: الكهنة، المحاربون، التجّار والفلاحون، وأخيرا عرق من العبيد هو "السودرا" « نتنفّس الصعداء عند المرور من جوّ المسيحية المريض والسجان (kranken-und Kerkerluft) إلى هذا العالم المعافى، الأرحب. كم هو حقير العهد الجديد في مقابل "مانو"، كم هو كريه الرائحة30».
التعاليم الخالدة لقوانين مانو تحكم على المنبوذين بأكل الثوم والبصل وشرب الماء الأجاج؛ ممنوع عليهم غسل أبدانهم وملابسهم، وعلى النساء المنبوذات ألاّ يقتربن من الأرستقراطيات؛ وختان الإناث وتشويههن مسموح به31. هؤلاء الناس، الذين هم أقل من البشرية، عليهم أن يتخذوا من خِرَق الجُثث لباسا، وماعونهم أوانٍ مكسَّرة، وحليّهم حديد صدئ، أمّا صلواتهم فتُوجّه إلى الأرواح الشرّيرة؛ يجب عليهم أن يَسِيحوا في الأرض رحّلا دون توقّف؛ محظور عليهم أيضا الكتابة من اليسار إلى اليمين وألاّ يستعملوا اليد اليمنى للكتابة، لأن تلك الوجهة مخصّصة فقط للعرق الأعلى.
كل هذه الإجراءات المذكورة في قوانين "مانو يرى فيها: «عِبرَة كافية (lehrreich genug): نجد فيها مكتملة الإنسانية الآريّة (die arische Humanität، نقيّة بالمرّة، ممتازة جدّا32»، على عكس ما هو عليه الحال بالنسبة إلى المسيحية، التي « نظرا لجذورها اليهودية وهي مفهومة فقط كثمرة نابتة من تلك الأرضية، تمثّل الحركة المضادّة لكلّ أخلاق "التربية"، العرق، الميزات، إنها الديانة النقيضة للآرية بامتياز33».
إذا رجعنا إلى غوبينو صاحب "لاتساوي الأعراق" فإننا نعثر على أطروحات مشابهة ربما قد استمدها منه نيتشه مباشرة. غوبينو يتغنى هو أيضا بالآريين الذين اجتاحوا الهند وانقضوا على العرق الأسود الأصلي. المنتصر الآري يتجنب الاختلاط مع طبقة المنبوذين، ويتعالي على الهجناء وأفراد العرق الوضيع. غوبينو يصف بشبقية العنف الذي يصيب كل من يخترق حظر التزاوج بين الأعراق. ونيتشه كما رأينا يبتهج بالإجراءات القاسية الوحشية ضد الاختلاط. التشاندلا يقول غوبينو يجب دحرهم لأنهم وسيلة عدوى، كل مكان يشربون منه يصبح مدنّسا، نيتشه أيضا. غوبينو يرى أن الاقتراب فقط من تلك الكائنات يعدّ نجاسة يجب الاغتسال منها، ومع ذلك فهو يقول بأنه لا ينبغي التغاضي عن "طيبة العادات الهندوسية". ونيتشه بالمثل يؤكد على أن هذا الصنف من البشرية هو ألف مرة أرقّ وأعقل من الأوروبي المسيحي الحديث.
ولكي نبرهن على أنّ معارضة نيتشه للدين لم تكن جذريّة وأن نقده للمسيحية ما كان يملك بعدا تحرريا، وأن تركيزه على الجانب التزهدي المناهض لكل بطولية نجده عند مفكرين متقدمين عليه. فلنفتح نصّا للفيلسوف السياسي مكيافلّي من كتاب "أقوال حول العشر الأولى لـتيتو ليفيو" ولنر كيف يصف المسيحية. يقول مكيافالّي: «إن ديانتنا تحبّذ فضائل التواضع والتأمّل على فضائل الفعل. إنها تضع السعادة القصوى في الذلّة، ونكران الذات، والإعراض عن الأشياء الإنسانية. أمّا الأخرى [الديانة الوثنية] تضع الخير الأسمى في عظمة النفس، قوّة الجسم وكلّ الخاصيات التي تجعل من الإنسان مُهاباً. وحتى إن افترضت ديانتنا بعضا من قوّة الروح، فإنها تحبّذ تلك التي تؤدي إلى تحمّل الشرور لا تلك التي تدفع إلى القيام بأفعال عظيمة. الأشرار رأوا أنهم بإمكانهم أن يقهروا دون أن يخشوا أناسا يطلبون الجنة ومستعدّين لتحمّل الخطب أكثر من الإنتقام34».
هذا المقطع يحوي كلّ نظرية نيتشه حول سلّم القيم الأخلاقية، حول أخلاق الأسياد وأخلاق العبيد، حول المعنى المغاير والمتناقض الذي تحمله كلمات مثل الخير والشرّ، الحسن والجمال، الشجاعة بحسب وجهة نظر الديانة الوثنية أو الديانة المسيحية35. الفضيلة كما يراها مكيافيلّي، تكمن في القوّة وفي الخداع لتحقيق أسباب الهيمنة، إنه حقّ الصفوة، حقّ القويّ، القائد الفذّ اللاإنساني، قيصر أو نابليون.
أما إذا تموقعنا في عصر نيتشه، أي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فسنرى أن الساحة الثقافية الأوروبية لم تكن خالية من أصوات تنادي بتصفية الحسابات مع المسيحية. مفكّر اليمين، الفرنسي لابوج (Lapouge) يرى أن الأخلاق المسيحية هي من بين أسوأ الأخلاقيات. لماذا؟ لأنها تُضحّي بالمجتمع لأجل الأفراد، وتحديدا الأفراد الضعفاء المشوّهين36. ولكن، من حسن الحظّ، فإن السياسة العاطفية المثالية للمسيحية قد ماتت، وفكرة الأخلاق سيحلّ محلّها حتما «التطهير الاجتماعي» (l’hygiène sociale). أما عالم النفس والبيولوجي الإنجليزي غالتون (Galton)، ابن عمّ داروين، فهو أيضا يقسو على الكاثوليكية التي، حسب زعمه، حينما تخلّت عن أرضية « الأخلاق الطبيعية » قضت على صفوة الأقوياء والأحرار عن طريق محاكم التفتيش والرّهبنة وتركت المجال مفتوحا للسفالة كي تتناسل وتتكاثر، وبالجملة فالكنيسة، حسب غالتون، أحدثت انتخابا مضادّا للانتخاب الطبيعي وكانت السبب في كارثة تفسّخ النسل وانقراض الأقوى37. ما الحلّ إذن للخروج من هذا الكارثة الأنثربولوجيّة؟ ومَن يضطلع بمهمّة تخليص الحضارة من ذاك التقهقر البيولوجي؟ إنها الدراسات العلمية المستمرة، التي تقرّر مصير ذاك الصراع: «عندما تُحقّق معارفنا الثراء المرغوب، حينها وحينها فقط، ستكون الفرصة سانحة كي يُعلَن فيها "جهاد" أو حرب مقدّسة (a Jehad or Holy War) ضد العادات والأحكام المسبقة التي تُضعف الملكات الفيزيائية والأخلاقية لعرقنا38».
هذا هو تقريبا الجو العام الذي كان يسبح فيه نيتشه ولذلك فإن اتهاماته للمسيحية بأنها المسؤولة عن « الجريمة الكبرى ضدّ الحياة»، ليست هي من الجدّة والتفرّد بالقدر الذي يودّ إيهامنا به هو وأتباعه، فضلا عن أنها ليست بتلك الثورية أو التحررية التي يُعزى إليها.
ثم إن نيتشه في ضربه للمسيحية كان ينوي أساسا ضرب الاشتراكية والحركات التحررية في عصره، والدليل على ذلك التشابه الكبير بين العناصر المكونة لكل من الطرفين. القاعدة الاجتماعية التي يتوجه إليها مبدع الديانة المسيحية يسوع (أو بولس) لها نفس مواصفات الكتلة البروليتارية. يسوع (أو بولس) « وجد نفسه وجها لوجه مع حياة الطبقة الدنيا في الإقليم الروماني، حياة متواضعة، عفيفة ورازحة تحت الهموم: ففسر هاته الحياة وأضفى عليها أسمى معنى وأسمى قيمة ـ ومن هنا أعطاها القوة والشجاعة لاحتقار أي نوع آخر من الحياة … هاته الثقة الديماسية والسرية في النفس التي لا تفتأ تنمو حتى تصير قادرة على هزم العالم (أي روما والطبقات العليا في الامبراطورية)39». ثم إنه «في المسيحية تُظهر إلى المستوى الأول قبل الكل، غرائز المستضعفين والمضطهدين. إنهم تلك الطبقات الأكثر حطة التي تبحث في المسيحية عن الخلاص40». النتيجة هي أن الطبقة السفلى بتبنّيها المسيحية أصبحت واعية بتناقضها مع الطبقة المهيمنة «المسيحية عداوة حتى الموت ضد أسياد الأرض وجبابرتها، وضد النبلاء، ومنافسة مستترة وسرية41». التعاليم المسيحية هي ديناميت يهدد بالانفجار في كل لحظة، وخطورتها تَكمن تحديدا في نشر فكرة المساواة « هذا الزيف، هذه الحجة التي هي حجة الضاغنين الأكثر حطة، هذا المفهوم البالغ الانفجارية الذي تحوّل أخيرا إلى ثورة والفكرة الحديثة والأساسية في كل النظام الاجتماعي، هي ديناميت مسيحي42».
السؤال الذي يتبادر للذهن، بعد الاطلاع على انتقادات نيتشه: هل هذا فعلا هو الدين المسيحي؟ لقد تعجّب أحد الدارسين من التساهل الذي أبداه نيتشه في تعامله مع المسيحية وتعاليمها ومن كيفية قفزه على الوقائع والأشخاص كي يبرّر قناعاته المسبقة. وأظن أن كل من يرغب في المعرفة الحقة ويَطمح إلى الموضوعية العلمية، بعيدا عن الانبهار بالكلمات الرنانة، فإنه لا محيد من أن يُوافق على انطباع هذا المفكر الفاقد لمشاعر الهيام بِنَبيّ زرادشت. يقول الكاتب الإنجليزي ستيوارت: «أعترف بأنني غير قادر على فهم ما يدور في ذهن أولئك المعجبين بنفاذ بصيرة نيتشه التاريخية. ما ألاحظه في عمله هو التشويه المستمرّ للحدث كي يوافق مُسلّمته الماقبلية. إنه يناقش نشأة الأخلاق المسيحية بعدم كفاءة، بنقص تعاطف تاريخي، بفشل في قراءة الآداب على ضوء زمان ومكان نشأتها، والتي إن طُبّقت في أي مجال آخر من مجالات البحث فإنها ستجعل من نتائج البحث عمليّا دون قيمة. كما أنه ليس من السهل الحفاظ على الصبر مع الناقد الذي ينسب باستمرار أكثر الدوافع وضاعة لجميع الذين يرون المسألة من وجهة نظر مختلفة43». لكن يجب التذكير ـ يُضيف الكاتب ـ أنه هو نفسه كان بالمثل دوغمائيا، وبالمثل غير مكترث بالمنهج التاريخي عند التعامل ليس فقط مع المسائل الدينية بل حتى مع المسائل العلمانية؛ وهو لا يتوانى من إلقاء اتهاماته الخطيرة ضد المفكرين الذين هم على خلافه غير مستعدّين للتضحية بمطلب الحقيقة. ثم إن نيتشه في محاولته إسناد تحليلاته على نص الكتاب المقدس، فإن تأويله، كما يرى ستيوارت، هو من السخف في حرفيّته بحيث أنه يذكرنا بالاستنتاج القديم للثالوث من آية العهد القديم "فلنصنع الإنسان على صورتنا". لكن الشيء الصادم حقا هو أن في ذات الوقت الذي كان يدوّن فيه "عدوّ المسيح" العديد من الكاتب في بلاده ينتجون أعمالا «كان ينبغي أن تجعل من ذلك الهزل مستحيلا (which should made that burlesque impossible)44».
أرى أن هذا الحكم، على قسوته، هو في غاية الصواب، لأن نيتشه فعلا يخذلنا إذا ما طلبنا منه تدقيقا تاريخيا أو دراية فيلولوجية معمّقة، ولكن ربّما قد غابت عن الناقد أن تهجّمات نيتشه مصوّبة نحو هدف آخر. فعلا إذا صدّقنا نيتشه واعتبرنا المسيحية بهذه المواصفات لوجدنا أنفسنا أمام الدين الأكثر ديمقراطية وثورية في العالم؛ الدين الذي لا يرقى إلى إنسانيته أي دين على وجه الأرض. دين يُنكر الطبقيّة، يُوعّي العبيد بحقوقهم ويؤلّبهم ضدّ الأسياد؛ يسوي بين أفراده، ويفسخ الفوارق بين الظاهر والباطن، على عكس الديانات الأخرى التي تميز بين تعاليم للعامة وأخرى للخاصة مثل الدين اليوناني والهندي والإسلامي: « فالتعاليم للعامة أو الخاصة التي ميز بينها الفلاسفة قديما، عند الهنود كما عند اليونان والفرس والمسلمين وباختصار، في كل مكان درج فيه الإيمان بالتراتبية وليس بالسواسية والحقوق المتساوية…».
أقول: هذا الدين ليس هو بالدين المسيحي، ولا أي دين آخر، وإنما هو مجرّد صورة أسطورية اصطنعها خيال نيتشه وصبّ عليها جام لعناته. إلاّ أننا لو نزعنا الأسطورة وتموقعنا في عصره لوجدنا أمامنا أعظم الحركات التحررية التي لم ير لها التاريخ مثيلا: الحركة الاشتراكية العالمية.
الهوامش: 1- K. LÖWITH, Nietzsche et sa tentative de récupération de la morale, in Nietzsche, Cahiers de Royaumont, Paris, Les Éditions de Minuit, 1967, pp. 45-76.
2- ف. نيتشه، ما وراء الخير والشرّ، ترجمة جيزيلا فالور حجار. مراجعة موسى وهبة، دار الفارابي، بيروت ـ لبنان 2003، 258. 3- F. NIETZSCHE, Götzen-Dämmerung, oder wie man mit dem Hammer philosophiert, in Friedrich Nietzsches Gesamtausgabe, von Giorgio Colli und Mazzino Montanari, De Gruyter/New York 1999, Bd, VI, p. 150.
4- F. NIETZSCHE, Ibid, p. 134. " Der Kranke ist ein Parasit der Gesellschaft".
5 Ibidem, "Die Ärzte wiederum hätten die Vermittler dieser Verachtung zu sein, - nicht Recepte, sondern jeden Tag eine neue Dosis Ekel vor ihrem Patienten".
6- ف. نيتشه، أفول الأصنام، م. س، ص، 97.
7- ن. م، ن. ص.
8- أبو حاتم الرازي، أعلام النبوة. الرد على الملحد أبي بكر الرازي، دار الساقي، بيروت 2003، ص، 15.
9- م.ن. الصفحة نفسها (ص، ن).
10- فريدريك نيتشه، المسيح الدجال، الأعمال الكاملة، م. س، ج. VI، ص، 185."Zwei Jahrtausende beinahe und nicht ein einziger neuer Gott!" (انظر أيضا الترجمة العربية، نيتشه، عدوّ المسيح، ترجمة جورج ميخائيل ديب، دار الحوار، اللاذقية ـ سوريا، 2004، ص، 59).
11- ف. نيتشه، ن. م، ن. ص. (ist einer der corruptesten Gottesbegriffe, die auf Erden erreicht worden sind)
12- ف. نيتشه، المسيح الدجال، م. س، ص، 182. « إن خصاء الله المضادّ للطبيعة، يُصنع منه فقط إله الخير، سيكون إزاء هكذا أفكار خارج كلّ ما هو مستحبّ». ف. نيتشه، المسيح الدجال، الترجمة العربية (ت. ع)، "عدو المسيح"، م. س، ص، 52. " Die widernatürliche Castration eines Gottes zu einem Gotte bloß des Guten läge hier außerhalb aller Wünschbarkeit"
13- " Was läge an einem Gotte, der nicht Zorn, Rache, Neid, Hohn, List, Gewalthat kennte? dem vielleicht nicht einmal die entzückenden ardeurs des Siegs und der Vernichtung bekannt wären". F. NIETZSCHE, ibid, p. 182.
14- ن. م، ص، 183. (ت. ع)، ص، 53.
15- TERTULLIEN, Contre Marcion, in Œuvres de Tertullien, traduite en français par Eugène-Antoine de Genoude, Louis Vivès, Paris 1852, T. I, p. 42.
16- TERTULLIEN, Ibidem.
17- Ibid, p. 45.
18- F. NIETZSCHE, Jenseits von Gut und Böse, in Gesamtausgabe, Bd. V, p. 79. ف. نيتشه، ما وراء الخير والشرّ، م. س، (ت. ع)، ص، 94.
19- ف. نيتشه، ن. م، ن. ص.
20- ن. م، ن. ص.
21- ن. م، ن. ص.
22- ن. م، ص، 95.
23- ن. م، ص، 95 ـ 96.
24- ن. م، ص، 96.
25- ن. م، ص، 96.
26- ن. م، ص، 96 ـ 97.
27- ن. م، ص، 97.
28- ن. م، ن. ص.
29- ن. م، ص، 98.
30- ف. نيتشه، أفول الأصنام، الأعمال الكاملة، م. س، ج. 6، ص، 100.
31- „ Die Abtragung der kleinen Schamlippen für die weiblichen Kinder anordnend“. F. NIETZSCHE, Ibid, p.101
32- ن. م، ص، 101.
33- ن. م، ن. ص.
34- N. MACCHIAVELLI, Discorsi sopra la prima deca di Tito Livio, in Opere, a cura di C. Vivanti, Einaudi-Gallimard, Torino 1997, p. 339.
35- J. BOURDEAU, Les maîtres de la pensée contemporaines, Félix Alcan, Paris 1904, p. 123.
36- G. Vacher de Lapouge, L’aryen. Son rôle social (1899), Forni, Bologna, 1977, p. 508. ذكره، D. Losurdo, Nietzsche, il ribelle aristocratico. Biografia intellettuale e bilancio critico. Bollati Boringhieri, Torino 2002, p. 761.
37- F. Galton, Hereditary Genius. An Inquiry into its Laws and Consequences, Macmillan, London 1869. pp. 357-58. “But the Church an exact celibacy. The consequence was that these gentle natures had no continuance, and thus by a policy so singularly unwise and suicidal that I am hardly able to speak of it without impatience, the Church brutalized the breed of our forefathers. She acted precisely as if she had aimed at selecting the rudest portion of the community to be, alone, the parents of future generation… The policy of the religious world in Europe was exerted in another direction, with hardly less cruel effect on the nature of future generations, by means of persecutions with brought thousands of the foremost thinkers and men of political aptitudes to the scaffold, or imprisoned them during a large part of their manhood… Those she reserved on these occasions, to breed the generation of future, were the servile, the indifferent, and, again, the stupid. Thus, … brutalized human nature by her system of celibacy applied to the gentle..”
38- F. Galton, Probability, the foundation of Eugenics, Clarendon Press, Oxford 1907. p. 30. “Continued studies will be required for some time to come, and the pace must not be hurried. When the desired fullness of information shall have been acquired, then and not till then, will be the fit moment to proclaim a Jehad or Holy War against customs and prejudices that impair the physical and moral qualities of our race”
39- ف. نيتشه، العلم المرح: 353. 40- ف. نيتشه، عدو المسيح: 21. ت. ع، ص، 64.
41- ن. م، ص، 65.
42- ن. م: 62.
43- H. L. STEWART, Nietzsche and the Ideals of Modern Germany, London, Edward Arnold, 1915, pp, 216-18.
44- Ibid, p. 218.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق