يبدو أن الحرب المتوحشة على غزة ورائحة الموت والخراب، أصابت أيضا نظرية المفكر والمغني (المكوجي) شعبان عبدالرحيم بأضرار فادحة، تلك النظرية التي وقفت على قدمي (كراهية إسرائيل، وحب عمرو موسى) فواقع الحال يشير إلى أن كراهية إسرائيل قد إنتقلت من الشكل الشعبولي السلبي البدائي الديني ومقاومة التطبيع، إلى مقت وكراهية وجودية عبرت عنها كلمات من قبيل: "سنعلم أولادنا وأحفادنا الكراهية، إسرائيل تحفر قبرها بيدها، العين بالعين إلخ" وهذا الكلام يعكس رغبة ضمنية لشارع عرب ـ إسلامي، هزته جرائم الدولة العنصرية، وإنتهاكها الصارخ لحق الحياة. وهنا يلحظ المرء تحولا قيميا عميقا في ماهية العداء والكراهية، التي راكمتها أيضا فظاعات التدمير الهائل في لبنان صيف 2006 وإهانة الذات الجمعية للمسلمين والعرب.
أما الركيزة الثانية للنظرية الشعبولية فقد تطايرت شظاياها كزجاج نوافذ غزة، وأقصد بذلك إنتهاء مؤسسة الجامعة العربية ورمزها العتيد عمرو موسى، رغم ترنحها الطويل الذي زامن إحتلال صدام للكويت عام 1990 وتحولها آنذاك إلى حصان طروادة لتحرير الكويت (وسلخها عن لواء البصرة ؟) وتدمير البنية الرئيسية لدولة العراق الحديث (تحقق ميدانيا في أبريل 2003). وهي نقطة الذروة لإنشطار الهيدرا العربية.. فحرب غزة كانت رصاصة الرحمة على منظومة ظلت منتصبة بفعل فياغرا البلاغة والمداهنة العربية، والتقبيل والضحك على اللحى. لكن الأحداث الأخيرة جعلت كل أنواع المنشطات اللغوية عاجزة عن تحقيق إنتصاب سياسي لعمرو موسى خصوصا وأن النظام العربي نفسه يعاني من شيخوخة وترهل وعجز فادح أصبح بمرور الزمن أشبه بدراما لاتخلو من لقطات فرفشة للعقيد ولإستعراضات جماهيرية ترفع قبضاتها في الهواء، أو عنتريات خلبية ووجوه بائسة ساخطة تناقض إبتسامة اليمن السعيد.
يقال في أدب السياسة أن الصراع يملي على الدول الضرب فوق وتحت الحزام. "فوق الحزام" لإسباغ شرعية على اللعبة وتمويه مراميها. بينما يُعوّل على لكمات ما تحت الحزام لتحقيق المصالح الحقيقية. لكن يبدو أن هذه القاعدة الذهبية فقدت أيضا قيمتها بعد 11سبتمبر 2001 إذ لاحاجة للضرب فوق الحزام خصوصا إذا كانت المنازلة مع زواحف صحراوية (أو أوسلوية) لا أثر وأهمية لها، أي أن قواعد السياسة أصبحت تستثني العرب، وتعاملهم كممنوع من الصرف (الصحي)، وتفرض عليهم نظام مقايسة ومكايلة ذي مفارقات كاريكاتورية. من هذه الخلاصة أجد أن حقبة ما بعد غزة مقدمة إلى مايلي:
1ـ نهاية الجامعة العربية وميثاقها وإتفاقيات الدفاع المشترك والطرطرة القومية، وإنفراط عقد مؤسسة القمة العربية، ويبدو لي أن القمة القادمة ستقتصر على وفد جزر القمر ومذيعي ومذيعات الجزيرة القطرية (ومراسيلهم وليد العمري وغسان بن جدو)
2ـ نهاية إسلام (الزبيبة، والنقاب) السنيّ الذي مثلته الوهابية البدوية السعودية، والبترودولار، والبقايا المتحجرة للأرثودوكسية وتوابع القروسطية في إفغانستان ووزيرستان، وولادة شرق أوسط إسلامي بأجنحة قادرة على الطيران تقوده منظومتان حضاريتان، إحداهما إيران: ممثلة لعالم شيعي متمرد وفتي وديناميكي، ومشبع بعقيدة كفاحية حسينية، وتراث فارسي دهائي، أما الثانية فيمثلها أحفاد الدولة العثمانية الذين ملّوا الإنتظار بباب (النادي المسيحي) وقد يكتفون بشراكة مميزة لأوروبا، والإنصراف لإستعادة ما فقده "الرجل المريض" يحدوهم أمل وحنين تاريخي لإستعادة مفاتيح الكعبة، وذكرى الأيام الخوالي للسلطان سليمان القانوني.
3ـ إن ما سبق لايعني نهاية حتمية ومباشرة للنظام العربي المشرذم، فبقاياه من رمم وعظام ستظل مؤذية وأحيانا فتاكة (كعظام الشنفرى) (1)لكنه سيصبح نظاما منكفئا على ذاته، فمصر الدولة الإقليمية الكبرى، والقائدة الفعلية للعرب أصبحت تضخما رمزيا لعبّارة (فيري) تجوب البحر الأحمر، مكتظة بالركاب والفساد ومصابة بتكلس دوغمائي لمواسيرها الحضارية ناهيك عما تواجهه من صعوبات ملاحية وشعب مرجانية وأخطار الغرق، وهي فعليا رهينة لرغيف الخبز ومكبلة بإتفاقيتي معسكر داوود، وعاجزة عن أي دور إستراتيجي يتجاوز معبر رفح
أما مملكة كرنفالات قطع الرقاب السعو ـ وهابية، فهي وبرغم إنتفاخ جيوبها بالمال، فإنها غير قادرة على تجاوز تصحرها الثقافي والإنساني وغير مؤهلة إلا لخيزرانات المطوعين (وإستئجار نفايات أقلام ومهرجي القصور، وتوظيف قوادين جدد لشراء جواري وغواني لمتعة البيوت العامرة [بالميم أو الهاء] )
في حين يبدو لي أن بلاد الشام (سوريا، لبنان) ستكرس دور أم العروس المتلبكة في حفلة زواج قسري ومتوتر بين (تركيا وإيران) بسبب المركبات التاريخية والمذهبية لبلاد الشام، والتي قد تلعب دور صمام أمان وكاتاليزاتور لتنقية هواء التمذهب والتعصب، وإمتصاصه من الدائرة الإسلامية المشحونة بإحتلال العراق.
4ـ وفي هذا السياق يمكن قراءة ملامح الصورة في بعدها الإقتصادي، إذ يبدو أن الكساد، والضغط على أسعار البترول سيكون الوسيلة لإنقاذ الإقتصاد العالمي خصوصا وأن سعر 150$ للبرميل كان القشة التي قصمت ظهر الإقتصاد النيوليبرالي، عليه فإن إعادة دينامية هذا الإقتصاد تشترط أسعارا متدنية جدا، ويعني ضمنا تراجع زخم البترودولار، وإنكفاء أمريكا بسبب أزمة الكساد المحدقة بها، مما يجعل مشروع إدامة وصيانة إسرائيل بإعتبارها حاملة طائرات أمريكية (حسب تعبير النمساوي اليهودي برونو كرايسكي) عبئا إضافيا يثقل المصالح القومية لأمريكا في محيط عربي يموج باليأس والإحباط والكراهية.
وبنفس الوقت أزعم بأن إسرائيل تسعى قاصدة لتعميق هذه الكراهية بإقتراف جرائم "كمالية" غير ضرورية، لتضمن ديمومة مبررات وجودها الذي يهدده السلم فعلا. ويقلقه إنطلاق قطارات المسافرين بين بغداد ـ دمشق ـ حيفا (وصولا للقاهرة والعكس)والذي قد يعني إيذانا بإطلاق صافرة نهاية الدولة العبرية.
5 ـ لهذا فإن من مصلحتها تعميق الكراهية وضرب كل معايير وقيم ومكتسبات الحداثة والأنسنة، ومحاولة إغراق أمريكا في رمال العرب. عبر توريط الإدارة الجديدة لأوباما بما لاتطيق. آملا في تحقيق قيم ثقافة القوة الإنكلوسكسونية التي تعتمد فكرة أرض الميعاد والشعب المختار وهي ثقافة يهو ـ بروتستانية نشأت عليها أمريكا أساسا وتفضي بالنهاية، إلى نيوليبرالية معولمة تقسّم العالم بيولوجيا وعرقيا وماديا، إلى سادة وعبيد، وتشيّد حكومة عالمية خفية، تتحكم بنظم السوق وعلاقات الإنتاج وملكية الثروات والموارد، وبالتالي تتحكم وتوجّه مصير الإجتماع البشري، بما يضمن رفاهية أسطورية لأقلية، تتدفئ على حطام وحطب أغلبية سكان المعمورة.
6 ـ لهذا فإن وحشية الهجوم على غزة، محاولة لترويع (الآخر البعيد) بأقل تكلفة وخلق فضاء عقلي (بواسطة الميديا والفن) يعيد تعريف قيم "الأنسنة والقانون الدولي" وتحويلها لوجود إفتراضي رقمي: (طفل إسرائيلي واحد يساوي مائة طفل عربي) وهذا يفضحه التواطؤ الرسمي للنظام الدولي المهيمن وسكوته عما جرى ويجري. مما يمهد الطريق لجعل غزة، نذيرا لحروب إبادة لاتستبعد اللجوء للقوة الأكثر إفراطا، وإختلاق حروب للأنتقام والتنفيس عن ثقافة القربنة التي يحملها أمثال العنصري ليبرمان وشهوته المفرطة للدم. (2)
7ـ ختاما وبعد نعي نظرية المفكر شعبان عبدالرحيم لابد من نعي الأفكار الكونية لقيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، التي أصبحت تفصّل حسب مقاس الشعوب! أرجو ألا تعتبروا هذه النقاط السبع، بديلا لأعمدة الحكمة السبعة ل (ت آ لورنس).. فقد تكون أكثر شعبولية، لكن أرجو أن تقبلوها (كما هي وبدون كوي) من باب خذوا الحكمة...
ملاحظات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق