
آراء وإنطباعات حول نشأة المسيحية والإسلام ؟
واحدة من الدراسات المذهلة، التي صدرت عام 1991م عن باحثين هما( Leigh & Beigent) خلُصَت إلى أن ذكر أو ورود إسم مدينة الناصرة في الإنجيل ينمّ عن سوء تفاهم كبير، فالمسوحات الآركيولوجية، تثبت أن المدينة أنشأت في زمن الحروب الصليبية، أي بعد عام1096م!!
بعد هذا الخبر المقلق لبعض الإخوة المؤمنين، وبعد ست مقالات عن التقويم الميلادي ، ونشأة المسيحية ، ولغز الإسلام المبكر، وجدت أن ألملم الموضوع، لذا أستميحكم عذرا لو توقفت قليلا أمام الأفكار الرئيسية ثانية، قبل أن يضيّع الخيط والعصفور. ماطرحته في مقالات سابقة، عبارة عن آراء لنخبة من الباحثين، الذين ينظرون إلى مدوّنات التاريخ الوسيط بعين الريبة والشك، فقد أتاح تطور علم (نفس وإنتربولوجيا) التاريخ، وعلوم المقارنة، لاكتشاف آليات عمل المخيال، وأساليب النقل الشفهي التي سادت إبان هيمنة الفكر الميثولوجي، فما نملكه من وثائق ومخطوطات، مجرد نسخ عن نسخ، تعرض أصلها إلى الضياع والتلاعب والنحل والإختلاق.
أما على الصعيد الإسلامي فقد تناولت آراء غونتر لوليغ بناء الكعبة، ونظريتة حول أصلها المسيحي، واعتبار اللات والعزة ومناة مريمات عربيات، وبالتالي خروج الإسلام من عباءة مسيحية آريوسية، ورفضه فكرة التمدد العسكري السريع ( الفتوحات الإسلامية ) وبعدها تطرقت إلى آراء اللاهوتي الإسباني بلاثيو، وفيلسوف التاريخ الفرنسي أوليك، التي تدحض فكرة إحتلال العرب الأندلس عام 711م وتردها إلى أقاويل وقصص ضبابية، ساهم إختلاقها ، في تبرير حروب إستعادة الأندلس ( ريكونكويستا) التي شنتها الكنيسة.وأخيراً تعرضت إلى آراء توبر، التي تؤكد أيضا نشوءً متأخرا للإسلام، إذا يقول بإختصار:إن أوروبا لم تسمع بالإسلام، قبل نهاية القرن التاسع، حينها فقط بدأ اللاهوتيون يذكرونه في نصوصهم، وخير شاهد على ذلك أغنية رونالد التي ألفها الشاعر تورولد، إبان الدعوة للحروب الصليبية 1096م، والتي تقدم لنا إسلاماَ غير الذي نعرفه اليوم، فالأغنية تشير إلى ثلاثة آلهة للإسلام محمد، آبولين، ترفاجنت (آبولين رمز لآلهة شيطانية، ورد في رؤيا يوحنا )، أما أسلمة إيران فقد أصبحت نافذة بجدارة عام 1003م، وهو العام الذي نودي بمحمود الغزنوي، سلطانا على المؤمنين، إلى ذلك الحين كان السلطان يحتضن الشاعر الوثني الفيروزي صاحب الشاهنامة ( كتاب الملوك )، وهي أغنية البطولة العظيمة للوثنية الإيرانية، وكذلك فإن أقدم أثر كتابي عربي في إيران، بالخط الكوفي ، يرجع إلى عام 955م، وقد انتصب بجانب كتابة وثنية فارسية بالحروف الوسطى الساسانية، وكذلك الأمر فإن أولى وأقدم الشواهد الأركيولوجية والمخطوطات المقنعة، في الأندلس تعود لعصر عبدالرحمن الثالث الذي اعتلى عرش الخلافة القرطبية عام 911م، أما في مركز السيادة العربية، فهنالك دلائل غزيرة على نشوء متأخر للإسلام، وبهذا المقام نذكر القصور الأموية المبنية على طراز الأنتيكا المتأخرة، مع تزيينات ساسانية تقليدية، ولوحات لايمكن أن توصم بالإسلامية كما هو الحال مع قصر الماشطا، الذي يُظهر نقوش لنساء عاريات ومصارعين، وآلهة أسطورية وخلفاء يطوّق رؤوسهم، ضوء الإله أهورا أمازدا، أما في قصور سامراء فتوجد صلبان وأغصان كرمة ورموز مسيحية. والخلاصة المهمة التي يصل إليها الباحث: حتى عام 930م لم يُعثر بعد على أثر يؤكد وجود منظومة إسلامية دوغمائية، كالتي تصفها لنا كتب التاريخ ومدوّناته.ماذا يعني ذلك؟؟
هل يعني أننا أمام زمن شبحي إسلامي موازي للزمن الذي طرحه هربرت إيليغH. ILLIG ، ماذا يقفز إلى مخيّتلنا إذا سقط شارلمان من حبل التاريخ؟ هل تسقط ساعة هارون الرشيد التي أهداها إليه. أم أن هارون سيسقط هو الآخر؟ إذا أدرنا السؤال : هل يملك الإسلام تاريخا حقيقيا بين عام600م و900م ؟؟ أم أننا أمام حبال( قرون) مطاطية إسلامية علق عليها الطبري وكتّاب السير دواوينهم الشعرية( التاريخية )؟ هكذا!! أيمكننا ببساطة ترك بدايات الإسلام في مهب الريح؟؟ ماذا عن الفتوحات وموقعة الجمل وصفين؟؟ ماذا عن الدولة الأموية ونصف الدولة العباسية؟؟
أناشدكم بأعز ماتملكون، ألا تأتوني من أرض تلك المعارك بقطعة سيف مكسور، أو بعضد رمح تالف، أو بلجام مهر أو حصان أو نبل قوس أو مكان قبر لضحية..هل يعقل أن تدور تلك المعارك ، ولا أثر لها على الأرض!! أجل حصلت في التاريخ البشري، نزاعات ما، في وقت ما، ومثيلها يحدث بين القبائل في كل مكان وزمان!! لكن ألا ترون أن المخيّلة والأسطرة، وحاجة النفس البشرية إلى كل غريب عجيب مدهش حوّلها إلى حروب تشيب لها الولدان.عندما أقرأ للدكتور القمني، أشعر ببهجة وغبطة ومتعة، فالرجل من خيرة الباحثين السجاليين، الضالعين في نقد الموروث، وربما تكون لغته الساخرة الساخطة والرشيقة، حافزًا إضافياً لقرائته. في كتابه المتأخر: أهل الدين والديمقراطية، شعرت أن مناكفاته مع الإسلاميين، بدأت تنحو بعيدا عن المنطق، وبدت آراؤه مشحونة بالعصبية والتوتر، والسطحية. رأيته يستنجد بنفس الموروث والقصص الأسطورية، التي يستخدمها خصومه السلفين ، وينبش نفس الحكايا التي تزكم الأنوف. على بعض صفحات من كتابه المذكور يعيد علينا تفاصيل، قصة من قصص الفتوحات المبكرة للعراق، التي كان خالد ابن الوليد بطلها والتي تروي قتله لآلاف من نصارى العراق؟ وملخص الحكاية، أن النصارى نكثوا بوعدهم الذي قطعوه لخالد ، فأقسم أن يسيل دمهم أنهارا، ولكي لايحنث بقسمه( الشعري المجازي) جمعهم وأخذ يقطع رقابهم، لكن دماءهم لم تكن تجري بسبب تخثرها على الأرض، وهكذا استمر الذبح حتى هبّ أحد بالمشورة، فنصحه أن يفتح ماء النهر، فتجري بدمائهم، وبهذا يكون خالد ابن الوليد قد برّ بوعده وقسمه، وبلاغته الشعرية. والسؤال: هل تقصّى القمني مثل هذه الروايات البدائية عن ذلك الزمن ، أليس من واجبه كباحث تمحيص الروايات قبل أن يتخذها حجة بوجه خصومه؟ ألم يتساءل من أين لهذا الأعرابي، الذي قطع الفيافي، بمعدة خاوية من أين له القوة لبتر رقاب الآلاف، وأية سيوف مرهفة تلك التي صنعتها تكنولوجيا قريش لتقوم بالمهمة؟ سبعون ألف قتيل يا للهول؟ إنه رقم يفوق ضحايا القنبلة النووية على ناكازاكي، ويقترب من عدد قتلى معركة العالمين بين رومل ومونتغمري، هل كانت تلك الآلاف المؤلفة من نصارىالعراق خرافاً تساق للذبح مطأطأة الرؤوس؟ كيف حدث ذلك، ونحن نرى بأم أعيينا اليوم، بضعة آلاف من قبائل العراق، وهم يدوّخون أمريكا وترسانتها الحربية؟ فإذا كان الإسلام المبكر بهذه الوحشية والدموية، لماذا بقيّ النصارى حتى عام 1860م يشكلون نصف سكان دمشق القديمة( مركز الخلافة الأموية ) والموارنة أكثر من نصف لبنان؟ ولماذا كان اليونان والأرمن الأرثودوكس واليهود، حتى بُعيد الإنقلاب الكمالي، يساوون نصف سكان استانبول عاصمة الخلافة العثمانية ( المتعصبة)؟أما كان على باحث كالقمني أن يترفع عن هذا الإسفاف، فما الفرق بينه وبين أبي حمزة المصري، إذا كان كل منهما يُخرج بعضا من زبالة التاريخ ويرميها بوجه الناس!!تربيت في طفولتي في خربة ( نسبت إلى القائد الروماني إيب من القرن الخامس ) عشش بها أجدادي بعد نزوحهم من جبل حوران في القرن الثامن عشر. كل ما أحاط بنا من أسوار وأحجار كان رومانيّا، أينما مشينا في سوريا كنا نتعثر بتيجان الأعمدة الكورنثية وأطلال العصر الروماني المتأخر. لم أتساءل قط عما تركه أجدادنا. فكلمة عرب تشتبك في ذهني بشكل فصامي، وكما يقول الكاتب العراقي سليم مطر في ( الذات الجريحة ) كلمة العرب تختلط بين مفهوم بدوي،وأخر حضاري راقي للهوية، بين أهل وبر وعرب تركوا قصر الحمراء في الأندلس؟من يتمشى في دمشق( عاصمة الخلافة) لابد يكتشف أن كل الآثار الإسلامية تعود إلى عصر الزنكي والأيوبي والعثماني( بين القرن 12و19م) وباستثاء الجامع الأموي، فلاشيئ يدلّ على الإسلام المبكر، حتى هذا الجامع فإن القصص المنسوجة حوله، وإقتسامه مع النصارى بادئ الأمر، ثم قصة البلطجة المنسوبة للوليد بن عبد الملك، الذي أمر قيصر بيزنطة بإرسال الأموال والحرفين لبنائه،( وإلا سيكسر القسطنطينية على رأسه ) وبرغم كل الحشو القصصي الأسطوري، فإن أسس هذا الجامع وجدرانه تثبت إستمرارا للأنتيكا الرومانية (معبد جوبيتير). عندما كنت أمشي في بغداد خلف جامع الحيدرخانة ووسط شارع الرشيد، كنت أتساءل عن قصور البرامكة وأين أقام المأمون حفل زفافه الشهير على رباب، وأين سلكت المراكب المحملة بالحطب، لإحراقها تحت قدور ولائم العرس؟ وأين نكح هارون والمعتصم آلاف الجواري؟؟ لاشيئ سوى مكان يسمى بالمدرسة المستنصرية ( من القرن 12م ) وأماكن قليلة أخرى. أين العصر الذهبي، وأين آلاف الحمامات والمساجد التي شقت مآذنها السماء؟ لاشيئ( حتى ابن جبير في رحلته المشهورة إبان العصر الأيوبي حوالي 1170م، يصف بغداد بمدينة كبيرة متهالكة أكلها الزمن وفقدت بريقها) ربما كان حل اللغز بإلقاء اللوم على المغول، وتدميرهولاكو للمدينة عام 1258م؟ لكني لست مقتنعا تماما فالمغول الذين ألقوا المكتبات في النهر، وذبحوا الرجال، وسبوا النساء. لم يأكلوا جدران المباني وقرميد السطوح!! لابد أن نعثر على شيئ يدل على بريق هذه المدينة وعصرها الذهبي، هل يُعقل أن يذوب أكثر من قرنين( بين750م 968م) كالصابونة، لمدينة كانت الأكبر في العالم؟ نظرية أخرى، تجزم بأن العرب لم يكونوا قط أهل عمران، خصوصا وأن ابن خلدون( كثر الله من أمثاله ) يصفهم بالوحشية، فهم مستعدون حسب رأيه أن يهدموا قصرا، إذا لزمهم حجرا، يضعونه تحت القدر!! البعض الأخر يعزوها إلى البناء الطيني ( الآجرّ)، الذي لايقاوم قساوة الأزمنة؟؟ لكننا نعلم أن تدمير سنحاريب وكورش لمدينة بابل لم يزلها من الوجود؟ ولم تلغي آثارا أكثر قدماً ، ومبنية من الطين، كسومر ولكش وإيبلا وماري. لماذا بقيت آثار كسرى في المدائن( طيسفون عاصمة الساسانيين ) القريبة من بغداد، وبقي طوقه الطيني شامخا، يغالب الزمن؟؟ في مصر أيضا لانرى من الإسلام المبكر شيئاً ، جلّ مافيها يعود للعصرالفاطمي ( ابتداءا من القرن العاشر م )، ثم المملوكي. حتى الجامع المنسوب إلى عمر بن العاص( حبيب الشيعة والأقباط) فلا أعرف عن تاريخيته غير الحكايا والأقاويل الجاثمة في المدوّنات، فقط الجدار الخارجي يعكس ( طابعا قديما) أما الأعمدة الداخلية فهي جديدة، وتعود للعصر المملوكي أوعصرالوالي ( بورتلاند سمنت).
بعد هذه الإستطرادات والإنطباعات، يظل السؤال مفتوحا للباحثين والدارسين ، فكاتب السطور ليس مؤهلا، إلا لأبداء ظنونه، وشكوكه، فالقرون الثلاثة بين 600م و900م موجودة قطعا في المدوّنات بإسهاب وتخمة قصصية، لكني لست متأكدا من الأرض فقد تقول كلاماً آخراً؟؟ وكما يقال الماء تكذب الغطاس. لهذا تسعى نخبة من تيار الباحثين والمؤرخين الجدد، برسم ملامح تلك العصور البعيدة، وكشف زواريبها المعتمة. فقصص أخبرنا فلان عن أبيه عن جده عن أصمّ ابن الأبكم أنه سمع قال: لم تعد مقنعة كثيرا. مانفريد تسيلر(M. Zeller) وتوبرTopper كانا من السبّاقين في استطلاع المنطقة البيزنطية العربية الفارسية، واستطاعا لفت النظر إلى وجود زمن شبحي في الكرونولوجيا الإسلامية، كما في المسيحية الأوروبية. وكذلك كان شأن الباحث أولريخ نيميتسUlrich Nemiez في كتابه بيزنطيات وزمن شبحي ( إصدار 1994) فهو يقدم صورة عن ثقب أسود، ويصل إلى قناعة بحثية مفادها أن النشاط الكتابي والعمراني قد توقف في بيزنطة بين 600و900ميلادي، وقد تم ردم هذه الفجوة بالتخمينات والمضاربات!!
أخيرا أود لفت نظر (من يهمه الأمر)، إلى الروح الكتابية لعصر الكلاسيكيات العربية من ابن المقفع والجاحظ إلى التوحيدي والأصفهاني وغيرهم، فهي تعكس في تراكيبها اللغوية، وبنائها السيمانتي، إعجابا شديدا بالتراث الوثني الفارسي وإنبهارا بالثقافة والحكمة والبذخ الأسطوري لملوك فارس، وتمجيدا( مكبوتا ) بالروح المجوسية، وإغفالا تاما للمسيحين، حيث تظهرهم كأفراد معزولين، يخدمون دواووين (الترجمة والطب ) وليس كجماعات دينية كبيرة، وهذا يؤكد (رأي الشخصي) نشوءً متزامناً لمؤسستي الدوغما، وبالتالي فإن الحروب الصليبية كانت تتويجا لنضوج التشكّل العقائدي، الذي وجد تعبيراته في إنقسام Schisma نشأ على أساسه عالما المسيحية والإسلام.
في الختام، وبعد أن أثقلت على الأخوة المؤمنين وأغلظت عليهم، أرجو منهم المعذرة وأتمنى لهم من أعماقي جنّة سعيدة، أنهارها جارية وقطوفها دانية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق