"بعد سيغموند فرويد لم يعد المرء مسؤولا عمّا يقوله فقط ، بل عمّا يخبّؤه في ثنايا لاوعيه. فسلوكه ودوافعه ليست مجرّد كلمات تُقال. الكلمات قد لا تقول شيئاً"
E. Fromm
بغضّ النظر عن مغزى إيريش فروم، فاللغة وعاء للأفكار، وكلّما افقَرّت* المصطلحات اقفرّ* العقل وتضخّمت الكلمات وفقدت دلالاتها، وفي ذلك تدهور المعرفة والعلوم وقحط الخيال والأدب. هذا ما يُحسّه المرء ويكاد ينعقد لسانه حين يتصفّح رسائل فرانس كاكفا، التي دبّجها لصديقته البرلينية الآنسة براون. يا للهول 700 صفحة متدفّقة بالكلام والمشاعر، بثّها كافكا في أعوام قليلة. حين تصفّحت بعضها أصبت بالصدمة والخجل، ورحت أتساءل عن لغتنا وكيف يتأوّه الناس في بلادنا ويتسامرون، وكيف يترجمون أشواقهم وعواصفهم وما يجتاح كينونتهم. وماذا يقول الفتى وهو يلمس يدها. وماذا تقول وهي ترمقه بخفر وحياء؟ أيتذكّرون شيئا من رموز القباني الجنسية المتوتّرة من قبيل:
"مطرٌ مطرُ ولتشرينَ نواح
والبابُ تئنّ مفاصله ويعربدُ فيه المفتاح"
لا أدري تماما.. فلم أقرأ أدبا شفّافا عن الصبابة والوله وجنون الحبّ، ولم أسمع عن أديب عربيّ ترك عشر رسائل لحبيبته (أو جاريته) أو قطع أذنه مثل فان كوخ وأرسلها إليها، فما عرفته لا يزيد عن "طوق الحمامة" أو بعض المجون الفاضح والغلمانيات والروض العاطر والأيك؟ لهذا أشكر أيروس العرب نزار قباني، فلولاه لاختنقت لغتنا من فرط الكآبة وصدأ الأيام.
ما ورد أعلاه كان بداية لثرثرة طويلة بمناسبة بلوغ القاموس الإنكليزي في يونيو 2009 مليون كلمة، وبينما كنت غارقا في التأمّل تذكّرت بيت شعر يقول:
وقبرُ حرب بمكانِ قفر ــــــــ وليس قرب قبر حربٍ قبرُ؟!
ففأفأت قليلا وفقدت الشهيّة وقلبت الصفحة.
قبل أيام عثرت أيضا على نص قصير معبّر، خطّه أستاذ الفلسفة عصام عبد الله، تناول فيه بعض مقولات جاك دريدا، التي عقّبت على أحداث 11سبتمبر، وفيها ينقل تشكيكه بمصطلح "الإرهاب" ويقول: " كلما ازداد المفهوم غموضًا أصبح عرضة للتطويع الانتهازي" وأصبح كلّ طرف يشهره بوجه الآخر المناوئ، ثمّ يضيف بأنّ اضطراب المصطلحات ليس خللا وفوضى مفاهيم، على العكس "يجب أن نرى فيها (المصطلحات) استراتيجيات وعلاقات قوى، فالقوى المهيمنة هي التي تتمكّن في ظروف معيّنة من فرض تسميتها، ومن ثمّ فرض التأويل الذي يناسبها، وبالتالي إضفاء الشرعية على هذه التسميات".
هذه الرؤية الكثيفة لدريدا، تُذكّر بما اقتبسه إدوارد سعيد في الثقافة والإمبريالية "الإمبراطوريات ليست مجرّد أساطيل تمخر البحار، بل لغة تُدقّ في شفاه الأمم المقهورة"، والقصد هنا ليس مصطلح الإرهاب كمصدر للألم والدماء، فعدد من تبتلعهم التماسيح الاستوائية يبلغ سنويا أكثر من ضحايا منهاتن، إنّما قصدت المصطلح حسب دريدا وكيف يفقد شرعيته عندما يُطوّع انتهازيا، ويشهره كلّ طرف بوجه الآخر. وهذه لعمري قاعدة ذهبية يمكن اختبارها في كلّ ما نمضغه من كلمات (لا تقول شيئا) وأوّلها لفظ "عرب" الذي أصبح مأكولا مذموما (كالبصل)، وطاله كثير من الحيف والمسخ الدلالي والتاريخي وتعرّض محتواه السياسي للتسخيف والشتيمة، بدءا من الحرب الأهلية في لبنان، وكامب ديفيد، واحتلال العراق. والمضحك المبكي أنّ معظم شاتمي العرب لا يعرفون إلا لهجات العربية حتى في منامهم وصلواتهم. والأدهى أنّ جميع الأعدقاء يحمّلون هذا المصطلح وزر إخفاق الأنظمة والمجتمعات وعجزها عن تحقيق التنمية والرفاه والديمقراطية وتداول السلطة، وكأنّ العرب مرادف للدولة، مع أنهم لا يختلفون جوهريا عن "أمريكا اللاتينية" التي تجمعها عرى الكاثوليكية والإسبانية والهسبانو وأدب غارسيا أكثر ممّا يجمع دبي بمقديشو، (وبيروت الشرقية بالغربية؟) إذاً نحن أمام مصطلح يطوّعه الجميع بشكل انتهازيّ لإخفاء العجز والفشل وتعليقهما على مشجب الوهم. أمّا السؤال فهو عمّن يكون العرب وما المقصود بهم؟
ميثولوجياً هم قبائل تنتسب لإسماعيل، وثقافيا هم لغة ودين وتراث، وهم أيضا البدو والرعاة حسب اللهجات المحكيّة في الشام والعراق..فاختصارهم في كونهم أعرابا غزاة (رزقهم تحت ظلّ رماحهم)، قولٌ متهافتٌ، بشهادة كثير من القراءات النقدية الحديثة المدعّمة بالأركيولوجيا والنقوش القديمة وعلوم المقارنة التي تنظر لمدوّنات التاريخ المبكّر باعتبارها نصوصا أدبية نسجها الرواة بعد مضيّ قرون من أحداث افتراضية مُتخيّلة، بما فيها قصص الهجرة والسقيفة ودولة المدينة والفتوحات والفتنة.. فالسير والمغازي هي تاريخ بدون تاريخ. ومحتواها من الحقيقة يضارع السيرة الهلالية، كما أنّ مضمونها الأسطوري (كهواتف الجنّ، وتنبّؤ الأصنام بقدوم نبيّ العرب ونطقها بالشعر، ومعجزات انشطار القمر، واهتزاز إيوان كسرى) أقلّ قيمة من "حكايات السندباد".
أما المثبت (بالنقوش والاركيولوجيا) فهو وجود إثنيات وممالك عربية سبقت الإسلام بقرون عديدة، وامتدّت بين اليمن والحيرة والحضر والغساسنة (بصرى) والأنباط (بترا) والرها وصولا لشرق دلتا النيل. من هنا تبدو الفتوحات العربية في نظر الكثير من البحوث نسيجا روائيا، فالواقع على الأرض، يحكي عن قيام سلالة ملكية (أموية) لملء الفراغ الدوليّ الناجم عن الوهن الذي ضرب الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية، وقد استتبّ الأمر حسب مبادئ الشرعية الدولية آنذاك، التي تتيح للمنتصر وراثة ممتلكات المهزوم (بما فيها جنوب إسبانيا البيزنطي)، والأدلة في وادي اليرموك لا تشير إلى حروب خالد وسيفه المسلول، بل إلى انتقال سلميّ للسلطة، وهناك ما يؤكّد أنّ أرملة هرقل تنازلت عن مصر لحاكم الشام (الأمويّ) وسحبت حامياتها، ودراسات النقوش والفنون والعمارة، تثبت أيضا أنّ القصور الأموية الصحراوية ذات طابع ساسانيّ (صور مصارعين ونساء عاريات وآلهة أسطورية، ورسم الخليفة تطوّقه الشمس المجنّحة لأهورا مازدا..إلخ).. كلّ ذلك يدلّ على أنّ الدولة سبقت الإسلام الذي نعرفه، وكذلك هو حال المسكوكات التي توحي بواقع إمبراطوري أوتوقراطي تعكسه بعض المسكوكات التي نعتت عبد الملك والمأمون بلقب "خليفة الله"، وهذا يتناسب مع روح العصر آنذاك حيث كان القيصر البيزنطي يتلقّب بباسيليوس (خادم الربّ) والملك الفارسي بكسرى (وتعني بالبهلوية: نور الآلهة).
وبقليل من المجازفة يمكن القول بأن الأمويين أنشؤوا إمبراطورية عالمية (فارسية العقل عربية اللسان) قبل اختراع ميثوس الأصول المكيّة وقبل نشوء الإسلام، كلاميا وفقهيا وتدوينا وعلم أنساب، ولم يصبح الإسلام دينا للسلالة الحاكمة (الدولة) إلا بعد حسم النزاع بين السلالتين المروانية (أميّة) والخرسانية (بنو العباس) منتصف القرن الثاني الهجري، تماما كالإمبراطورية الرومانية التي لملمت المسيحية من حطام ميثرا ونبوءات التوراة والأفلوطينية لتصبح عقيدة الدولة في عصر قسطنطين (وفعليا منذ جستنيان في القرن السادس م).
وعودة إلى مصطلح "عرب" كمركب مفاهيمي سوسيو ـ تاريخي ثقافي، أجد من العبث اختزاله بجغرافيا الحجاز، وتاريخ فتوحات شبحية وعلم أنساب وهميّ، وجعله قافية لقصائد المديح أو الهجاء والرثاء. فالمصطلح هو تكثيف لخطاب معرفي (وايديولجي)، متعدّد الطبقات والدلالات، ويرتبط بكيفية التلقي وظروف الإدراك والوعي التي ترسّخها كلّ ثقافة، ومن السذاجة إصدار أحكام أخلاقوية على ماضي نجهله بطريقة ما. أقول نجهله لأننا لا نستطيع أن نتحرّر من الفرضيات والمسلمات التي فرضها علينا الحاضر وثقافته المهيمنة.
لا يقتصر الأمر على "العرب" فحسب. فمعظم ما خطّه الروّاد ونحته أساطين الكلام من تماثيل لغوية [حداثة ـ دستور ـ دولة ـ أحزاب ـ قومية ـ حرية ـ ديمقراطية ـ علمانية ـ جماهير ..إلخ] هي مصطلحات عائمة ومتضخّمة، تم استنزافها وتفريغها، فالدستور (مرجعية العقد الاجتماعي) يفقد معناه في ظلّ قانون العصبيات القبلية (العائلية) والمذهبية.. والدولة (حامية الدستور، والأمن، وموزّعة الثروة وموّجهة الثقافة، ومحتكرة العنف) لا علاقة لها بدولة السلطان، وضمور الحداثة هو ترجمة لغياب الإنسان كذات فردية واعية (مواطن) وطغيان مفهوم الرعيّة. وهكذا يضيع المعنى الحديث "للأحزاب" باعتبارها ميلا فكريا أو طبقيا، ليعاد إنتاج الدلالة القديمة (لأحزاب الخندق).
إنّ معظم ما نتشدّق به صباح مساء، يشي بأننا نعوم فوق شبر من الماء؟
لذا أستسمحكم بقلب الصفحة:
اقترنت صدمة الحداثة، بصهيل خيول نابليون في باحة الأزهر، ومعها بدأ مشوار طويل من الجدل في مسائل الدولة والدين والعلمانية بلغ أحيانا حدّ الفوضى.. ولأنّ الحداثة مسار قلب أنماط الحياة على كوكبنا. كان من الضروريّ وصفها وشرحها معرفيا، وربطها بأزمنة ومفكرين، مما جعلها أحيانا متاهة للناظرين. مع أنها ببساطة ثمرة لفتوحات المعرفة والعلوم، التي بلغت أوجها مع الداروينية في القرن 19 وكشوف اللغة المسمارية وخلخلة قصة الخلق التوراتية (وطينها اللازب) وانتزاع عصا القيادة من يد الإكليروس..إلخ.. إلا أنها لم تكن طلاقا بائنا مع الماضي، كما يحلو للبعض، فمسيحية الغرب ومن حيث لا تدري سهّلت تلك القيامة. لأنّها مؤسّسة سلطوية هرمية لها عنوان وفاتيكان يسهل الوصول إليه، في حين كان الإسلام التاريخيّ (رغم وجود الفقهاء ودور الفتوى) عفويا بدون عنوان أو عقل مؤسّسي. وهنا تحضرني ملاحظة جديرة أوردها أمين معلوف في خاتمة كتابه: الحروب الصليبية، إذ ينقل شهادات من العصر الأيوبي تؤكّد أنّ الفرنجة (البرابرة) أنشؤوا في المشرق ممالك مستقرّة ذات مؤسّسات، تعاقد فيها الإكليروس والفرسان والنبلاء، وانتقلت فيها السلطة بيسر وسلاسة. ورغم تخلّفهم في الفقه القانونيّ "عدلوا في توزيع الحقوق"، أمّا السلطنات الإسلامية "المتحضّرة نسبيا آنذاك"، فقد خضعت غالبا لنزوات السلطان وبطشه وعشوائيته، وكان رحيله نذير حروب أهلية (وسمل عيون وخوزقة) وهروب التجّار (من نعمه الوفيرة) واللجوء لممالك (الكفار الحقيرة) وما أشبه اليوم بالبارحة.
وقد يكون نظام العصبيات (قانون الدم) هو الأبلغ لوصف المشرق العرب ـ إسلامي، حيث كانت مدنه أسيرة أبديا لمحيط بدويّ يسيل لعابه عليها، فمعظم السلالات التي تناوبت على ركوبه (عرب، سلاجقة، مرابطون، كرد، ترك) كانت من أصول عشائرية، بعكس أوروبا الوسيطة التي عاشت منذ سقوط روما وفق نظام جمع النبلاء والكنيسة والقنانة في إقطاعيات ربطتهم قسريا ووجوديا، لتكوّن فيما بعد بذرة وعي جمعيّ انبثقت منه فكرة التضامن والوطن والدولة الحديثة. أمّا في المشرق فقد ساهم مناخه الحارّ الجافّ في خلق أنماط معاشية تتيح للسكان البندلة (من بندول) بسهولة والترحال بين حياة الوبر والمدر، وهذا ساهم في قلق المدينة (مركز الأرثودوكسية والكتابة).. وقلق فكرة الوطن في الذات الجمعية، وما زالت صور هذا القلق تتجسد في لاوعي مشاعيّ (أرض الله واسعة) واستهتار بالمصالح العامّة وقيم التضامن واقتران مفهوم "الحكم" بالغنيمة أو السلطة الغاشمة، مع أنّ الجذور الدلالية للفظ "حَكَمَ " تدلّ على "القضاء والحكمة".
ما أوردته للتوّ ليس مقاربة انتروبولوجية تدّعي العصمة، بل إطار أفكار لتعزيز الموضوع وتحديده بعيدا عن تعويمه بالكليشيهات، أو إغراقه في التجريد اللغويّ. فالحداثة كحامل لمشروع العلمنة والأنسنة أعقبت الثورة الصناعية التي سبقها عصر النهضة ومرحلة ازدهار دويلات المدن التجارية بعد انتهاء الطاعون المروّع في القرنين 13و 14، ولعلّ النهضة الفعلية بدأت مع سقوط القسطنطينية في القرن 15بيد العثمانيين، وهروب النخب البيزنطية غرباً، ومساهمتها في تضخّم مراكز التدوين الكتابيّ، التي كانت وقتذاك حبيسة الحصون وجدران الأديرة، وهذا التضخّم المباغت ولّد الضرورة والحاجة لاختراع المطبعة (أي تعميم المعرفة).
وباختصار يمكن الزعم بأنّ الكنيسة لعبت منذ القرن 12 دورا محرّضا في ازدهار الفنون (فالرسم والنحت في عصر النهضة هما مثالان مُدهشان على تقدّم هندسة الفراغ، أحد روافد علم الميكانيك، وليس من قبيل الصدفة أن يكون دافنتشي رساما نحّاتا ومصمّما للآلات)، إضافة لتأسيس جامعات أوروبا وحركة الترجمة (منذ سقوط طليطلة نهاية القرن11) وتطوّر مراقبة الفلك (فالتنبّؤ بآحاد الفصح، وإعداد جداولها حفّز على تطوير أدوات الرصد وذلك لارتباط "الفصح" بأشواط القمر، والاعتدال الربيعي في آنٍ معا، وهذه عملية مُعقّدة بمعايير ذلك الزمن).
ويبدو لي أنّ آلام مخاض الحداثة التي يُطنب البعض في وصفها، ذات طبيعة رمزية بلاغية. رغم الدماء الغزيرة التي رافقت الثورة الفرنسية والحروب النابليونية، فالتناقضات اللاهوتية كانت أهمّ مساهمة قدّمتها الكنيسة، إذ أنّ مقولات من طراز: أَحِبَّ لجارك ما تحبّه لنفسك، وأحبّوا أعداءكم ومبغضيكم. كانت تهويمات شعرية، وبنفس الوقت حجر عثرة أمام تحقيق القوة والنجاح (بدءاً من الحروب الصليبية)، ولعلّ تاريخ الفاتيكان نفسه يشهد ضمنيا، بأنّ الكرسي الرسولي ورغم التناقض الشكليّ، كان منصة لصعود إنسان نيتشه. وكم كان حريا بدستويفسكي أن يدّخر مقولته : "عندما يموت الله يصبح كلّ شيء مباحاً"، فالربّ (له المجد والملك) أباح كلّ شيء منذ أمد بعيد، وأطلق يد أمراء إسبانيا ومطارنتها لغزو أمريكا الجنوبية، وجلب ذهبها، وتعميد المليون الأخير من شعوب الإنكا والمايا (بعد إبادة 24 مليونا فيما بين القرنين16و17)..
فالكلام عن صراع مع الدين (الكنيسة)، هو كلام نسبيّ وأحيانا اختزاليّ، ينفيه الحاضر والماضي القريب، فالدين كان حاضرا في مباركة مدافع فرانكو أيام الحرب الأهلية الإسبانية. وحاضرا في مقولة ستالين، عن هزيمة النازية بجنود يرتدون قبعات القيصر، وكان حاضرا في نشوء إسرائيل على أشباح الآباء الأسطوريين، وحتى في أحلام السيد بوش وبلير. لكن وتخفيفا من حدّة المغالطة أو المغالاة عليّ الاعتراف بأنّ حضور ذلك الدين، كان بتجلّياته كثقافة وهوية ووعي جمعيّ، وليس الدين المختزل في بضع آيات وركعات. ولتأكيد ذلك أسوق مثال النمسا (حيث أعيش) فالمعروف أنّها بلد كاثوليكي حتى النخاع، عاش تحت سلالة الهابسبورغ التي عاصرت الدولة العثمانية وانقلعت معها عام 1918 بعد أن حكمت قرونا كسلالة ورثت الإمبراطورية الرومانية المقدّسة، ومفاتيح القدس، لكنّ شعب النمسا أعاد انتخاب اللاديني (الملحد؟) هانس فيشر رئيسا ومنحه 79% من الأصوات، ومنح خصمه الكاثوليكي 5% فقط لما أثاره من سخرية، عندما اقترح وقوف نوّاب البرلمان كالتلاميذ وترديد: "أبانا الذي في السمَوات"، فالموروث المسيحي الثقافي لأوروبا لم يصبْها بالعمى، ولم يمنعها من الإقرار بأنّ للحداثة فرادتها وندرتها، وقدرتها على صياغة الحياة، لما حقّقته من كفاءة وجدوى في تفسير الطبيعة وفهمها وترويضها والحدّ من جموح الآلهة، لأنها في العمق نظم وآليات مقايسة عقلية تنأى بالإنسان عن العشوائية وأحكام الغيب.
*افقَرّ (أصيب بالفقر) واقفَرّ (أصبح قفرا) مجرد اقتراح لاشتقاق صيغة فعلية جديدة على وزن احمرّ اسودّ
ملاحظة: لا أجد ضرورة لذكر مصادر الاقتباسات الواردة، فالمكتوب يُقرأ من عنوانه.
مرحباً أستاذ نادر وحشتنا والله. كتبت تليقاً مطولاً على مقالتك هذه حين نشرتها الأوان لكن فرق الوقت بين أمريكا وما وراء الأطلسي يعني أني أعلق حين يرفع القائمون على الأوان مقالات جديدة وينزلون مقالات قديمة فتضيع التعليقات. أتمنى أن يكون هذا هو السبب لأني والله لا أجرح ولا أشتم. باختصار أثارني "خجلك" حين قراءة كافكا وتساؤلك عن لغة الحب في لساننا العربي، ثم ذهبت إلى القول أن اللغة تنخل المشاعر وتقولبها فلا تأتي الأخيرة بما لا تعجز اللغة عن التعبير عنه. وبالعكس فإن المشاعر "المعروفة والمسموح بها" تفرض على اللغة فضاء ضيقاً من المفردات والتعابير. لكن الحلقة ليست مفرغة تماماً ويكسرها كتّاب مثل كافكا بأحاسيس جديدة ومفردات وتعابير جديدة. ولا أذهب إلى حد اتهام اللسان العربي لكني أحاول حين أكتب أن أكسر الحلقة التي ذكرت.
ردحذفأما مصطلح "عرب" فهو كما قلتَ غائم ضبابي مائع هلامي لا يمكن تحديده، وهو كذلك ليتم يوظيفه أيديولوجياً كا ذكرت أيضاً، لكني ألفت نظرك إلى أن المصطلحات المحددة والمعرفة والمسيجة بوضوح هي ليست كذلك لقوة في اللغة وإنما لنجاح الأيديولوجيا التي تبنت المصطلح. وبما أن القومية العربية أخفقت تميّع مصطلح العرب، على خلاف مصطلح الفرنسي الواضح المعالم والحدود لنجاح القومية الفرنسية. والآن حيث تتحدى هجرة الجنوبيين إلى فرنسا تعريف الفرنسي فإن المصطلح سيتميع ويعود إلى طاولة النقاش والقولبة والمنافسة الأيديولوجية.
وتحليلك الخلدوني لتاريخ الشرق العربي حي ترتع العصبيات القبلية بحرية قد لا يكون محايداً للصواب، لكني أعتقد أن العصبية هي أساس المدنية. هناك العصبية المدنية وهناك نقيضها المتعايش معها والمنافس لها وهي العصبية القبلية. الأعصبية الأولى مرنة وتقبل القادمين الجدد بينما العصبية الأخيرة متحجرة تقوم على نسبة الدمحيث لا مجال للقادمين الجدد. ولذلك ظهرت البداوة مع ظهور المدنية كالمادة وضدها. ولا يمكن أن تبني جماعة ما كياناً ثابتاً (وقدرة علة المنافسة كوحدة) دون عصبية تمتّن تلاحم أعضائها فهناك العصبية الحزبية والعصبية المناطقية والطائفية والرياضية. حتى الشركات الكبرى تبني لنفسها عصبيات للتأكد من ولاء موظفيها لها. فما بال العصبية القبلية تثير غضبك أكثر من غيرها. أعتقد أن الجواب هو في تحجر الأخيرة واقتصراها على قربى الدم في تعريف العضوية مما يعني زوال تكافؤ الفرص. ولا يعني هذا أن العصبيات الأخرى لا تهدد مبدأ تكافؤ الفرص بل هي موجودة للتحايل على هذا المبدأ. وحتى في ال"ابلدان المتقدمة" تلعب الواسطة القائمة على عصبية ما دوراً هاماً في حياة المجتمع وتوفر لأعضائها ما تحجبه عن نهم خارجها.
أخيراً أنا معجب بمعرفتك للتاريخ الأوروبي وأعتقد أن على كل الشعوب المستعمرة (بفتح الميم) سايقاً أن تدرس هذا التاريخ. لكني أعتقد أنك تسلط نقدك الفعال على التاريخ العربي الإسلامي وتضن بمثله على التاريخ الأوروبي القرأوسطي والحديث. ألا تعتقد أن هذا التاريخ الحافل بالنجاحات (وأحيانا دون فشل) هو أيضاً تاريخ ملفق؟
ألا تعتقد أن سلسلة العصور الوسطى، النهضة، الإصلاح الديني، التنوير، الثورة الصناعية ليست إلا سيرورات منفصلة أحياناً ومتشابكة أحياناً في علاقة لا يمكن وصفها بالسببية. وكلها مصطلحات أيديولوجية تسير في حتمية تاريخية نحو الحداثة الأوروبية واعتلاء أوروبة عرش العالم في القرن التاسع عشر والنصف الأول من العشرين. وأنا أوافقك أن الكنيسة لعبت دوراً هاماً بمجرد كونها، لكني لا أرى التاريخ الأوروبي وصفة طبخ ينبغي على الشعوب الأخرى اتباعها للوصول إلى النتيجة ذاتها، وما هي النتيجة: كولونيالية أخرى، أم حقوق إنسان لم نبدأ بالكلام عنها إلا بعد الحرب العالمية الثانية، أم تحرر جنسي بدأ في أواخر الستينات، أم ديمقراطية صناديق الإنتخاب التي لم تخرج من متاهات المافيا وشراء الأصوات إلا بعد الحرب العالمية الثانية (على الأقل في أمريكا)، أم حريات مدنية كانت ممنوعة على الأفارقة وأبناء المستعمرات حت الستينيات، أم دولة الخدمات الضمان الإجتماعي التي لم تظهر إلا على الأسواق غير المحدودة التي أنتجتها الحرب العالمية الثانية. لم نكتب ونصرخ ونطالب بالحداثة؟ أليس الأفضل أن نخلق تجربتنا الخاصة؟ هل من الصعب خوض التحربة حتى نلبس الأوروبي الجاهز المفصل على مقاسهم؟ أنا أدعو إلى مبادئ وليس منهاج واضح وهذه المبادئ تتلخص بالتالي: سيادة القانون الضامن لحرية الإختيار، دولة الخدمات التكنوقراطية، منع الاحتكار الإقتصادي، فصل التشريع الدينيي عن تشريع الدولة، المجتمع المدني الفعّال والموازي للدولة وفقط. أما إلى أين يقود الطريق فلا أعرف ولا يزعمنّ أحد المعرفة.