فرانس وترجمة القرآن
حتى نهاية عصر النهضة الأوروبية، كان إنكار قانون الإيمان ، من الكبائر، التي قد تودي بحياة الإنسان إلى المحرقة، وهذا القانون، ينص على الإعتقاد بإله واحد، خالق لكل مايُرى وما لايُرى، إله تجسد وصُلب وقام في اليوم الثالث، ثم صعد إلى السماء. وكذلك ينص على الإيمان بالروح القدس الذي حلّ في تلامذة، كرزوا بنعمته وبشروا بملكوته السماوي. لكن بنفس الوقت كان هنالك من أمثال جيردانو برونو الذين تحدوا سلطة الكنيسة، وتقدموا نحو الموت بإبتسامة تعلو شفاههم؟ أوروبا تغيرت بعد إنتصار الحداثة، فالإيمان تحرر من طقوس القمع والنفاق والتقية، وأصبح خياراً يقرره الإنسان بملئ إرادته؟
أما في العالم الإسلامي فيبدو أن ساعة الزمن قد تعطلت !! وما زال نقد الدين يفتح أبواب جهنم، ويسلط سيوف الردة على كل من يُنكر معلوما من الدين بالضرورة؟
قبل أعوام كنت في المغرب، وصادف أن حلّ شهر رمضان فجأة، وأخذني على حين غرة، أنذاك أحسست أن الدار البيضاء قد أصبحت قفراً، (وعصفاً مأكولاً!) وأول ما أتذكره في هذا السياق مقولة لأحد الأعراب من كارهي الصوم: والله لأقطعنك بالحلّ والترحال ؟؟ عبثاً بحثت عن ملاذ أحتسي فيه فنجان قهوة وأدخن. عبثاً بحثت عن وجه يبتسم ، لم أر إلا نظرات قاسية متطيّرة، وتعوّذات من الشيطان الرجيم السيد فيليب موريس، الذي وسوس لنفسي الأمّارة بالسوء وأغراها بسيكارة.. لملمت متاعي ورحلت إلى طنجة وركبت أول باخرة محملّة بشياطين آخرين، ونقلت حطامي عبر مضيق جبل طارق( أعمدة هرقل)، وعندما بلغت اليابسة ركعت وقبّلت الأرض الأسبانية( الأندلس) ؟؟ كنت غريب اليد واللسان ولايهمني سوى إنقاذ جلدي، حينها تساءلت، عن تلك القوة الساحقة التي تجبر الجميع على الطاعة والصيام أو التظاهر به، أي قانون ذلك الذي يمنع (برونو) مغربي من تحدي هذا الحظر القسري وإشعال سيكارته جهارا نهارا؟مذذاك لم أعد أنظر إلى الأديان كنماذج لجدل وجودي ميتافيزيقي، وسؤال عن حقيقة أزلية.. بل كطقوس، ورأسمال رمزي، يشحن بطارية الجماعة بمفردات الهوية وينحت وعيّها التاريخي، ونظرتها الكونيةWeltanschauung الفرق الميتافيزيقي بين الإيمان بالإله مردوخ البابلي أو بيهوى ( إله الجند) أو بالمسيح المصلوب أو بإله الأنفال فرق ضئيل كالفرق بين التطهر بماء المعمودية أو بنهر الغانج الهندوسي أو بالوضوء والتمخط على المغاسل، فكل ذلك تفاصيل هائمة في ضوضاء طقوس صاخبة، الميزة الحقيقية والفرق الرئيسي هو ما يختفي وراء الموروث اللغوي الأدبي، والفضاء الشعري القصصي والمخيّال الجمعي، الذي حقنته الأجيال لبعضها..إنها البلاغة ؟؟؟ والتاريخ ليس أكثر من سجل لتلك البلاغة.عبر مسيرة البشرية كان أمثال جيردانو برونو بندرة أحجار الماس؟ في سياقنا العربي عرفنا بعضهم كالفيلسوف والطبيب الرازي، صاحب الرسائل الفلسفية، الذي حاجج في (مخاريق الأنبياء) بمبدأ النبوّة ذاتها!! أو الشاعر الفيلسوف المعرّي، الذي هزأ من رمي الجمار، في شعيرة الحج المكية وقال:
وقوم أتوا من أقاصي البلاد ******* لرميّ الجمار ولثم الحجر
فواعجباً من مقالاتهم ********** أيعمى عن الحق كل البشر
قبل مدة هاتفني أحد باحثي السوسيولوجيا ، وإستبان رأيي في أحسن الترجمات الألمانية للقرآن؟ نصحته بترجمة رودي باريت أو ترجمة مراد هوفمان ( شخصياً لم أطلع على كليهما، لكنه نوع من عرض عضلات معرفي) وحين طلبت توضيحا لإهتمامه المفاجئ ..أخبرني ( مستغرباً ) بأن بحوثه على الجاليات المسلمة أفزعته قال موضحا:
أجل القرآن من عند الله ( حتى وإن كان الله غير موجود) ..لقد وضعت الجملة الأخيرة بين قوسين وتصرفت في ترجمتها، لأن الأصل اللغوي كان قذفاً مقذعاً؟؟ ثم أضاف لديّ شعور قوي بأن هيبة قرآن المسلمين تفوق هيبة الله أحيانا!!قلت له إسمع يا فرانس :
ألم تلاحظ أن الدافع المختبئ هو شعور بالإنتماء إلى هوية ممزقة، ودفاع عن ذات مهانة ومهددة ومستلبة؟؟ لما كلّ هذا الإستغراب، عليك أن تقوم بإحصاء مماثل بين مسيحي المشرق العربي، أو أفريقيا وتسألهم عن قانون الإيمان المسيحي وستجد حتماً أن جرجس لايختلف كثيراً محمدين؟؟
ولو أنك قابلت شيعياً (ماركسيا ) لأكتشفت في تلافيف عقله بكائيات عاشوراء، ولبيك ياحسين وأثار السلاسل على ظهره!! وبالتأكيد لن تجد شيئاً من المرحوم ماركس!! أجابني واثقاً:
لا هنالك فرق جوهري، يبدو لي أن كتاب الإسلام شديد السطوة على الذات الواعية، وبحضوره يستوي عالم الفيزياء مع بائع البصل!! لهذا أسألك فلابد لي أن أجد وقتاً لقراءة القرآن!بعد مدة إلقيته في محادثة ومسامرة طويلة، وسألته إن كان قرأ شيئاً ، أجابني بهدوء إسمع:في مطلع حياتي الأكاديمية، لم أستطع قراءة الإنجيل، كنت أشعر بالملل والتثاؤب من النصوص القديمة وأمقت رسائل بولس! أما التوراة فتحتوي على قصص جنسية مسليّة، لكني ورقتها بسرعة كمن يهرول في ماء جليدية، وعلى نفس المنوال لم أقرأ أكثر من ربع القرآن، ففيه كثير من التكرار والتهديد والوعيد والصلي بنار جهنم !!
عندما همّ بالمغادرة ناديته: "هيه فرانس لقد نسيت كتاب رودي باريت على الطاولة ..إلتفت نحوي وقال مازحا:
يبدو أنه يوم سعدي فسأحظى بشرف أول تعليق على هذا المقال اللذيذ ..
ردحذفلك حبي وتقديري أستاذ نادر
مدمن على كتاباتك الرائعة
معتز