لا أفكار خارج اللغة ولا عقل يعقل نفسه بدونها .. إحدى قرى جبال لبنان ضربتها العزلة وإنقطعت عن الحضارة لمئات السنين إبان الخلافة العثمانية، فتلاشت لغتها تقريبا. ولم يبق في حلق أهليها سوى أربعمائة مفردة..فقاموس اللغة مشروط بالتجربة المعرفية للإنسان وعندما تتلاشى يجفّ ضرع اللغة أيضا. ومن المؤسف أن الآلهة لا تعلمنا الكلام،كما عُلّم آدم الأسماء (يصعب تأكيد الحادثة لغياب الشهود) ولا تتفرع عن بلبلة الألسن كما تصوّركتّاب التوراة.
إحدى الأساطير الكبرى في حياتنا، هي لغة قريش التي جُمع بها القرآن العثماني وحملها (الغزاة ؟) العرب على صهوات الخيل كما يُزعم، ثم أصبحت في القرن التاسع ميلادي، لغة عالمية للتدوين، خصبّها ونمذجها الفراهيدي وسيبيويه والزجاج وأبي علي الفارسي والجرجاني وغيرهم (ويا سبحان الله كلهم من الفرس!!)
فداحة الكذبة لم تنطل على النبيهين، الذين عرفوا أن شعراء الجاهلية كتبوا قصائدم بلغة (قريش) دون أن يكونوا قرشيين، فإما أنهم شعراء وهميون أسقطهم الخيال من جوزاء خيلائه، أو أن لغة قريش سقطت من علياء الوهم..
إن ألف باء علوم اللسانيات تؤكد بأن اللغات الكبيرة، يلزمها تمركزا حضريا وأجيالا تخصبت بالمعرفة، لهذا من السذاجة الإعتقاد بأن اللغة العربية التي صاغت الشعر والتجريد العقلي والفلسفة، قد نشأت في أرض لا زرع ولا ضرع بها. ومن السذاجة الإعتقاد بأن الصحراء موئل الفصاحة التي تتلمذ على يدها فقهاء اللغة، ولعل لقيات الأركيولوجيا ونقوش الخط العربي القديم وأصوله، تدلنا على ذلك. فمعظها وُجد خارج ما يُسمى جزيرة العرب، وأهمها كان في حوران موطن الغساسنة إلى حلب شمالا إلى سيستان الإيرانية شرقا إلى بردية الفيوم غربا؟ بإستثناء نقش يتيم في الطائف يرد فيه إسم معاوية.. ومعظم المخطوطات والكسور ونسخ القرآن الأقدم المحفوظة في المتاحف كُتبت بأيد عراقية..
عربية القرن التاسع المعدلة والمنمذجة، هي حصيل توليفي لكامل الموروث اللغوي القديم، فالحدود بين العربية والأرامية وغيرها كانت مفتوحة، بسبب القرابة لشجرة نسب واحدة، لهذا إستطاعت العربية أن تغرفها وتذيبها في قاموس ابن منظور. ليس لأن الأرامية أو القبطية لغة المقهورين، بل لدينامية خاصة بتفوق العربية لسانيا، هذا ما تؤكده مالطا التي غادرها العرب والمسلمون منذ تسعمائة سنة، لكن المالطية ما زالت لهجة عربية يمكن للتونسي والليبي أن يتعلمها بثلاثة أيام (كما يتعلم الليبرالية)
لهذا أصبحت لغة التواصل والتدوين في أرجاء العالم القديم Lengua Franca (يُذكر أن كولومبس اصطحب ترجمانا عربيا، لإعتقاده أن كل العالم خارج اوروبا لابد يتكلم العربية) وإستطاعت إنتاج ابن المقفع والجاحظ والمعري وأبي حيان، وإبن رشد.
لقد أستطاع لغويو ذلك الزمن التغلب على مصاعب عصرهم فإشتقوا وزن "فعال" ليترجموا أسماء الأمراض عن جالينوس ـ فعرفنا ـ زكام وسعال وبهاق ..إلخ وإستطاعوا تطوير الطاقة الدلالية للإسم والفعل، فحصلنا على بحر من المعاني لوزن "إستفعل وإستفعال" فمن (إستفعل طاعة الآخر) حصلنا على: إستطاعة ومن عمّر إستعمار ومن حمار (إستجحاش)، ومن خير إستخارة ومن شر إستشارة (عذرا للخلل الفني) .. لكن لغتنا اليوم أصبحت عتيقة رغم إضافات بطرس البستاني وفان دييك والشدياق وغيرهم من أساطين الحداثة ومعلمي الكلية الأنجيلية السورية (جامعة بيروت الأمريكية لاحقا)
عربية اليوم لاتستطيع أن تستوعب العصر، فلو فتحنا قاموسا لعلم البحار لوجدنا آلاف أسماء الهيدرا والطحالب والكائنات المجهرية وآلاف أنواع الأسماك والكائنات.. ونحن في الحقيقة لانملك إلا بضعة أسماء نلخصها بكلمة: سمكة (وفي تونس تكبر السمكة وتصبح حوتا) لغتنا تضمحل لأننا لم نشارك العالم في إكتشاف معارف علم البحار (نكره السباحة والغوص، ونخشى من البرد) فلو إستوعبنا الدرس القديم لجيل سيبويه لكان علينا فتح اللغة على مصراعيها لتهضم العاميات كما فعل لغويو القرن التاسع والعاشر ميلادي الذين عصروا الآرامية والقبطية والفارسية ولعقوها بلسان العرب.. فقط الكلمات المفبركة هي التي لم تعش على ألسن الناس أو في لهجاتهم لأنها أصلا كلمات مشبوهة، أقحمت العربية زورا لغرض التلاعب الدوغمائي. مثل كلمة " كلالة" التي وردت مرتين في القرآن ضمن أيات تخص الميراث، فقام الفقهاء بالإلتفاف على معناها وإختلقوا أعذارا لهدر دمها (في الطبري) علما أنها تعني "كنّة : وكلالة من إكليل وزواج" وكان غرضهم آنذاك حرمان الكنّة من الميراث كي لا يذهب خارج القبيلة (هناك دراسة ممتعة حول كلالة لمحمد أركون)
إن لغتنا الكلاسيكية لا تزال شديدة الرسمية مليئة بالبلاغة (المبالغة) وترتدي بذلة وربطة عنق، وتمارس المخادعة والتمويه وكأنها في حفلة تنكرية، هي لغة موروث مقدس، علّم كل ما هو غير طبيعي، هذا ما إكتشفته الحداثة التي حوّلت الإنسان إلى مادة للبحث بواسطة علوم الإنسانيات. فجردته من ثنائيات الخير والشر وعالم المثل والبطولة والزيف وموروث الخوف والنفاق وأخضعته للتجربة ككلب بافلوف. ليس هو فقط بل تاريخه ومقدسه أيضا
فِلهم كامماير كتب " التزوير في تاريخ المسيحية الأوروبية" وكشف النقاب عن جبل من الأوهام ومات بعد أن عضّه الجوع (عام 1959 م) وسوء التغذية والحرمان وعدم نشر كتبه، لكنه أصبح الآن أبا روحيا لجيل من المؤرخين والباحثين عن الحقيقة.
في جملة واحدة لخص حياته المريرة قائلا:
أكتبُ لدوافع تنويرية نبيلة، لأن تاريخاً مزوّرا، هو خطر جسيم على الحضارة، فهو يمنحنا مفاتيح خاطئة تؤدي إلى معرفة ووعي خادع، سرعان ما يتحوّل إلى وقود لصراعات قادمة!!
وعلى خطى كامماير بدأ المنهج النقدي لمؤرخي ما بعد الحداثة يشق طريقه في وعثاء الماضي وأساطيره وأبطاله وأشباحه.. ومن هذه الأشباح ربط العرب والعربية بقريش، وبيارق فتوحات (وهمية) لخالد وسعد وعمرو.. لهذا أود أن أقدم فيما يلي بعض الخلاصات والرؤى، قد تساعدنا في رؤية حداثية متحررة من موروث الأسطرة والزيف.
أولا: إن تقسيم المنطقة العربية، حسب نظريات هجرة الشعوب، وتفرع الساميات يسبب تشويشا وضررا وإن قبلناه على مضض. فعربية سيبويه كانت مشروعا مخزونا في الموروث اللغوي (من الآكادية شرقا إلى الكنعانية غربا) حتى إسم "محمد" يضرب جذوره إلى القرن 13 ق.م فقد كشفت ألواح أوغاريت المسمارية أن MHMD مهمد (ساكنة بدون تصويت) صفة لنقاء الذهب ويعني: الأفضل، أو النوعية المنتقاة. وقد إحتفظ اللفظ الأوغاريني "مهمد" على محتواه الدلالي بمعنى: مصطفى، منتخب، مختار حتى بداية الإسلام (1)
ولتعميق الفكرة لابد من الإشارة إلى أن فك طلاسم اللغة الأكادية إعتمد أساسا على اللغات الحية (وعربية سيبويه بالدرجة الأولى) فلو راجعنا المسلّة الشهيرة لحامورابي (1728 ـ 1686 ق.م) التي عُثر عليها عام 1902في سوسة عاصمة العيلاميين، ثم نقلت إلى لوفر باريس فإننا نقرأ تصنيف طبقات المجتمع العراقي القديم كما يلي:
1ـ طبقة " الأوليم Awilum " الأولون وتعني طبقة السادة والأحرار 2ـ طبقة "الموشكينوم Musckinum وتعني السكان أو المساكين. إلخ (2)
ثانيا: أيضا ورغم تعدد الآلهة في الشرق القديم، إلا أن فكرة إله التوحيد كانت مبرمجة في عمق الميثولوجيا، لنقرأ هذا النص على رقيم عُثر عليه في مدينة إيبلا (بلد الإله داجون) التي إنتهى أجلها ودمرها الحثيون نهائيا حوالي (1600ق.م):
رب السموات والأرضين، إن الأرض لم تكن، وأنت خلقتها. إن نور النهار لم يكن، وأنت خلقته... أيها الرب (أنت) الكلمة الفاعلة. أيها الرب (أنت) الرخاء. أيها الرب (أنت) البطولة (3)
ثالثا: إن الوجود العربي (بالمعنى الإثنولوجي) لم يكن بحاجة لسيوف خالد وعمرو بن العاص، كي يُحمل خارج الجزيرة العربية، فهو ضارب القدم وجزء من الجسد السكاني للشام والعراق، ومصر. وهو بديهي ومعروف منذ قيام كيانات للأنباط وتدمر والحضر في القرن الثاني ميلادي وقبلها لكن المدهش حقا ما أورده الباحث التوراتي دونالد ريدفورد الذي يشير إلى أن فترة الفرعون بسامتيك (610ـ 664 ق.م) وإبنه نخو الثاني (من الأسرة 26) حفلت بإزدهار عمراني كحفر قناة بين المتوسط وفروع النيل الشرقية لربطها بالبحر الأحمر (تأكيدات أركيولوجية) وأن القيداريين (العرب) إستوطنوا شرق الدلتا منذ القرن السابع ق.م. وفي القرن الخامس ق.م أصبحوا القوة المسيطرة في الدلتا، وأن المدينة التي ترد في التوراة بإسم جوسن (قريبة من الآثار المكتشفة لبي رمسيس) هي إسم العائلة الملكية للقيداريين العرب (4) وهنا يجدر الملاحظة بأن ريدفورد ساق هذه المعلومات لربط قصة يوسف التوراتية بالقيداريين، فالإسطورة تذكر أن قافلة من الإسماعليين هي التي إصطحبته إلى مصر.
رابعا: أما الفكرة البالغة الخطورة التي نحتها بهمة وجهد علمي غير مسبوق فولكر بوب (5) فقد أضافت مصطلحا جديدا أسماه " آرابي" ويدل على مجموعات سكانية يصعب من ناحية التحقيب اللساني (القاموسي) تحديدها، لكنها بالتأكيد مرحلة أولى في صيرورة عربية سيبويه (يمكن تصورها مزيجا عربيا آراميا)، وكانت لغة الجسد السكاني للهلال الخصيب في القرن الثالث ميلادي وتمتد بين إنطاكية والرها (المقار التاريخية للمسيحية الشرقية) إلى الحضر وسلوقيا (قرب بغداد: تيسفون المدائن،مراكز النسطورية) حيث تشير الدلالات التاريخية بأن الملك الساساني شاهبور الأول (241م ـ272 م) إحتل مدينة الحضر وسبى سكانها. حيث كان التهجير آنذاك جزءا من تطبيقات الحكم الساساني:
وكذلك إحتل إنطاكية في سوريا، وقام بترحيل سكانها بما فيهم مطران المدينة حيث أسسوا مدينة جندشابور في خوزستان. التي غدت وطنا جديدا للاهوت الأنطاكي المضاد لعقيدة التثليث والتأليه في روما.
وفي الحروب الثلاثة الكبرى التي خاضها شاهبور . ضد روما وحلفائها بين 241 و 260 م تم توطين الأسرى في بيرسيس (أو تخت جمشيد عاصمة فارس القديمة) هذا ما يؤكده النقش الفارسي المسمى كأبابي زردشت في العاصمة جمشيد (16 سطرا بالفرسية)
وحوالي 540م. قام خسرو الأول (531 ـ579 م.) بهزيمة البيزنطيين وقام ثانية بترحيل جميع سكان أنطاكيا الأسرى بإتجاه وادي الرافدين، حيث شيد هناك مدينة إسماها "أنطاكية خسرو الجديدة" Veh-Antiokh-i Chosoau أو المدينة التي عرفها المسلمون بإسم "رومية".
وعلينا ألا نعجب، لوجود ألفاظ، تعود بالأساس لوطن المنفيين السوريين، والتي إستبدلت إسم الشاهينشاه على النقود (المضروبة) بعد غروب الحكم الساساني: ففي الشرق وبالضبط في سيستان عام 661 م. حلّ اللقب التشريفي "محمد" على المسكوكات مكان إسم الملك الساساني!!
إن أهمية هذه الأطروحات تساهم بجدية في فهم لغز الدور الفارسي في الحضارة العربية، وكيف إحتوى عصارة اللغة العربية، من خلال مدن جند سابور، ومرو وسيستان ورومية وكل المستوطنات الفارسية التي سكنها المنفيون "الآرابيون السوريون" (تصفيق) الذين مهدوا لعصر قادم مثّله الطبري والبخاري وسيبويه.
فالأطروحة تحل بضربة واحدة مسائل تاريخية غامضة، عن العربي الذي كان يمتطي صهوة جواده ويتجول في بلاد فارس دون ترجمان وكأنه وسط قبيلته في أزد وتميم، وكيف إستطاع فارسي مثل ابن المقفع أن يكتب كليلة وذمنه بالعربية في ذلك الزمن المبكر، إنها أفكار تضيئ لنا أشياء مبهمة عن تاريخ التشيع وقدوم بني العباس من خوراسان تحملهم سيوف أبي مسلم، وحتى عن أدب القرن الرابع الهجري وسجالات الشعوبية والظهور المفاجئ للشيعة البويهية؟ عن سر التدوين الكتابي العربي الذي تسيّده الفرس وأهل بخارى وطبرستان دون العرب.
1ـ Cyrus H. Gordon: Ugaritic Manual
2ـ 3ـ المعتقدات الأمورية خزعل الماجدي
4ـ The Bible Uneathed
5ـ من اوغاريت إلى سامراء : فولكر بوب (الإسلام المبكرDer frühe Islam )
الأستاذ نادر المحترم
ردحذفهل لك أن تعطينا بعض المعلومات عن بردية الفيوم ؟، حيث أنك تذكرها هنا كما أنك ذكرتها في تعليق لك بأنها كانت مكتوبة بلغة عربية منقوطة (30 هجرية) ، وعند البحث عنها على الإنترنت لم أجد ما يشير لها .
حيث أن هناك على مايبدو بردية تسمى ببردية الفيوم تعود إلى عصور سابقة (في القرن الثاني الميلادي)
سوف يكون من المفيد والمشوق أن نعرف أكثر عن هذه البردية الحديثة ، ماذا كتب بها ؟ وهل يوجد صورة لها ؟
معلومات قيمه جدا وهذا يتطلب اعادة كتابة التاريخ من جديد
ردحذفشو هالحقد والكراهية لكل ماهو عربي ومسلم - حتى الاوروبيين
ردحذفلايكنون هذا الحقد للعرب و المسلمين-
بسم الله الرحمن الرحيم(( قل ياأهل الكتاب هل تنقمون منا الا أن ءامنا بالله وما أنزل الينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون))صدق الله العظيم ---- أنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون----
المقال مهم وهو فى حاجة الى مزيد من الاضاءة نظرا لاننا نفتقد معرفة تاريخ العرب قبل الاسلام لعدم وجود مصادر كما يجب الانجعل من التراث العربى مرجعية ذاته لانه سيضللنا كثيرا شكرا لكم
ردحذفيمكن ان اضيف هنا ان التاريخ الاسلامى للتراث لم يحمل على كاهل العرب بقدر ما حمل على عاتق المسلمين من غير العرب كذلك اعتمد تاريخ فترة ما سمى بالعصر الجاهلى على كاهل الرواية اليهودية وانه كما ذكر المقال فان اللغة العربية احتفظت بأصولها السريانية والعبرية فمجموع هذه اللغات ينتمى الى جذر واحد ومن التضليل بمكان ان يطلق بعض الباحثين على حضارة سوريا والرافدين مسمى الحضارة العربية ونحن فى انتظار مزيد من الكشوفات الاثرية التى تضىء لنا الماضى
ردحذف