يطرح البعض علاج أزمة المجتمع عن طريق صبّ الإهتمام على الأولى فقط , فالثانية لا تعاني من تغييب العقل و لديها ما يكفي من الإقتدار المعرفي! (و هذا خاطئٌ برأيي) .... هذا الإحتمال (التوعية الشعبيّة) يمكن أن يكون صحيحاً و ترياقاً ناجعاً , فقط حين تكون أدوات الإتّصال في مخاطبة الجماهير (تعليم مدرسيّ و عالي , بثّ فضائيّ , إذاعة , نشر , مرجعيّة دينيّة ... الخ) , بأيدٍ أمينة... لا بأيدي من يدأبون على زرع و توطيد أطناب القهر والجهل لحفظ مصالحهم و مصالح من يرتبطون بهم .
بينما يقول البعض الآخر بضرورة تغيير طبيعة الثانية (النخبة المثقّفة) لنرقى بالأولى (القاعدة الجماهيريّة) .... و أنا أؤيّد هذا الطرح , فالنخبة المثقّفة في العالم العربيّ لا تعدو كونها ردٌّ انفعاليٌّ ارتجاليٌّ على واقعٍ مُنفعِلٍ بائس , و ليست نخبة تكوّنت من تراكم المعارف و التجارب الخبراتيّة... فهي تفتقر إلى المنهجيّة و الموضوعيّة في أطروحاتها... و كما غدا مُسَلّماً به.... فعامليّ الموضوعيّة و المنهجيّة هما الشرطان الأساسيّان للشروع بأيّ بحثٍ علميٍّ يتناول العلوم الطبيعيّة أو التقنيّة أو الإنسانيّة , و ما إلى ذلك من علومٍ ارتقينا بها بفكرنا .... فلا جدوى إذاً من دون هذين الشرطين اللّازمين و غير الكافيَين.
بيد أنّ اتّباع الأسلوب الخطابيّ في التواصل مع الجماهير كسبيلٍ لتحريضهم على امتلاك عقولهم و أخذ حقوقهم و النجاة بأنفسهم من وطأة القهر و هدر الظلمات لطاقاتهم و ثرواتهم , و الإبقاء عليهم أتباعاً مرهونين بقرارات الفئات المحظيّة بالجاه و السُلطة ..... لا يُجدي نفعاً حقيقيّاً... و لا يُفضي إلاّ إلى مزيدٍ من الإنفعال و العشوائيّة و انعدام الضمانات المستقبليّة... و الأمثلة على ذلك كثيرة .
أفلا يستلزم هذا الواقع التوجّه بالنقد إلى النخبة المثقّفة و أطروحاتها أوّلاً ؟ كونها هي ذاتها يعوزها الكثير من الموضوعيّة و المنهجيّة و التنظيم في دراساتها و أعمالها , كما أنّهم الفئة الوحيدة القادرة على الإنفتاح المعرفيّ و تلقُّف الرؤى عن الغير و مقارنتها بمعطياتنا و الإستفادة منها , إضافةً لكونها الفئة القادرة على الوصول إلى مراكز الإتّصال و مخاطبة الجماهير التي ذكرتها آنفاً .
إن أزمة المجتمع عميقة و متعدّدة المستويات , فهي ليست بالإقتصاديّة فقط , أو الفكريّة (أو الدينيّة) فقط , أو السياسيّة فقط... الخ , و إنّما هي جميع العناصر المكوّنة لذاتنا و لأزماتنا , كما هي تعاضُد تأثير علاقاتهم ببعض .
لذا فأنا أقترح اعتماد الحلول التي تنبع من البحث العلمي المنهجي في جميع القضايا و على جميع المستويات و مختلف المناحي .
رأينا أنّ علاج الأمراض البيولوجيّة على سبيل المثال لم يتمّ بمشيئة قوى ما ورائيّة... أو وعود سلطويّة.... أو خطاباتٍ عقائديّة... أو قناعات ذاتيّة.... أو رغبة أو أمل جماعيّ .... و لكن تمّ بواسطة التفكير العلمي المفتوح الواضح و الدقيق و الممنهَج.. المرتكز على المنطق في التحليل و التقنية الدقيقة في التنفيذ .
إذاً... فالمرحلة الأوليّة لعلاج واقعنا ينبغي أن تكون بوضع جميع العناصر المكوّنة له و المشاركة و المؤثّرة فيه , على طاولة المعاينة و التحليل المخبريّ (كاللّغة , الدّين , التاريخ , أنظمة الحكم , الثقافة الشعبيّة... الخ) , و فصلها كلّ على حدا للدراسة المكثَّفة ... و تفكيكها ثمّ إعادة تركييبها بأسلوب مدرسة الشكل , لنعي العلاقات المتبادلة بينها , و تأثيرها على بعضها البعض .... و من ثمّ يتمّ التوصّل لحقائق تسمح بتكوين معارف و أساليب تضمن : أقلّ ما يمكن من الخسارة و جلّ ما يمكن من الربح..... على جميع الأصعدة , و لمصلحة الجميع .
تنويه : لم يتمّ التطرّق لموضوع السلطة الحاكمة كعنصر أساسيّ , نظراً لسوء الأحوال الجويّة , فالغمام الملبّد يغطّي الشمس... و الريح تعصف بضراوة ... كما أبطأ البرد الزمهرير الدورة الدمويّة ممّا أضعف التروية الدماغيّة . . فقام بتعطيل مركز النطق و الكتابة... ما أدّى إلى شلل مؤقّت طويل الأمد في التفكير . . . بعد ضرب العمليّات العقليّة العليا بالصواعق الحارقة . . تطبيقاًً لغضب السماء و امتثالاً لغباء . . بني الإنسان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق